مع صدور الحكم في قضية الباص القاتل..
هشام علام يتذكر المأسآة
حوار : سمية مصطفى
في الذكرى السنوية لوفاتهم .. كان هذا الحوار مع أحد الآباء الذين ُفجعوا في أبنائهم في كارثة مصرع خمسة من شباب الرحاب.. نحسبهم شهداء ولا نزكي على الله أحدًا، فقد خرجوا من بيوتهم لعمل الخير، وسقط عليهم "باص الرحاب" .. توفاهم الله وهم عائدون من مهمة تطوعية مشاركةً لإخوانهم في غزة. ويشاء الله أن يكون هذا التوقيت هو أيضا توقيت حسم القضية ليتحقق العدل الإلهي في الأرض بصدور حكم بالسجن لمدة سبع سنوات على سائق باص الرحاب، وتعويض مدني من طارق طلعت مصطفى. ما الذي حدث منذ يوم الحادث الذي توفي فيه كل من (أحمد هشام علام، وأحمد جمال زيدان، ومحمود محمد فوزي، ومحمود حاتم عبد الآخر، ومصطفى هشام غالي) حتى يوم الحكم في القضية .. هذا ما حكاه لنا والد أحد المجني عليهم المحاسب هشام علام، وبسبب بشاعة الحادث جاءت الكلمات قوية وقاطعة:
قضيتي هي قضية خمس أسر رحابية، ُفجعوا بمقتل فلذات أكبادهم في حادث سير بشع، عندما كانوا عائدين من قاعة المؤتمرات بمدينة نصر يساهمون في تحميل حاويات التبرعات لأهالي غزة عندما ُفتح المعبر، وهم في طريق عودتهم إلى الرحاب انفجر إطار السيارة التي كان محمود فوزي يقودها، وظلت لمدة دقيقتين تنقلب في نفس الجهة التي يسيرون فيها باتجاه الرحاب. جميع السيارات القريبة توقفت تحسبًا لما سيحدث، ولكن عندما انتقلت السيارة المنقلبة إلى الجهة المقابلة من الشارع كان السائق القادم في المقابل منشغلاً بسباق مع أحد الميكروباصات في محاولة لتجاوزه، كان الميكروباص يسير بسرعة 100كم في الساعة أما باص الرحاب فكان يسير بسرعة 120كم في الساعة رغم أنه باص كبير فيه العديد من الأرواح، لذا لم يتمكن السائق من التوقف لتفادي السيارة المنقلبة وتحول الحادث إلى كارثة. لقد اصطدم الباص بالسيارة وظل يدفعها أمامه حتى انقلب فوقها مما تسبب في تهشم كامل لأجساد الشباب الخمسة ووفاتهم في الحال وهم جميعاً يرتدون كوفية غزة الشهيرة.
اتصل بنا من يخبرنا بهذه الفاجعة وتوجهنا سريعًا لمكان الحادث، في هذه الأثناء ونحن جميعًا مشغولون بدفن أغلى ما فقدنا كان هناك أناس آخرون، قلوبهم من حجر يحيكون مؤامرة إخفاء حقيقة الحادث؛ فالباص كان من باصات الرحاب، وقد أسرع بعض المسئولين لتزوير المحضر وتغيير أقوال السائق زورًا وكذبًا! لقد دافع المسؤلون في الرحاب على السائق ودفعوا له عشرة آلاف جنيه كفالة ليخرج في نفس اليوم دون أن يراعوا الله ويراعوا حق الدماء التي ُسفكت، زوروا أولا في التحقيق وقالوا إن السائق كان يسير بسرعة 50 كم في الساعة فأظهر الله الحق بشهادة سائق الميكروباص الذي أكد أن سرعته كانت تتعدى 120 كم في الساعة. لا أحد منهم بمن فيهم السائق القاتل اهتز قلبه لمشهد هؤلاء الشباب الذين ُطحنت أجسادهم تحت حجم الباص الهائل، لم يقم أحد منهم بمواساتنا نحن أهالي الشهداء ولا من باب التكافل كمسلمين. بل قاموا بوضع لافتة سوداء علي الباص لإخفاء اسم الرحاب!!
هؤلاء انشغلوا بتغيير الأقوال في المحضر لصالح الشركة بالتأكيد؛ فالسائق لا يعنيهم..هل كانت ردة الفعل تلك ستكون بنفس الحال لو كان أحد المتوفين ابن طارق طلعت مصطفى أو ابن أحد مسئولي الرحاب؟!
مواجهة بين الأم والقاتل
بعد شهرين ونصف شهر من الحادث كانت زوجتي تركب باص الرحاب رقم 3717 وسألت السائق: هل تعرف السائق الذي تسبب في حادثة الشباب الخمسة؟ رد بمنتهى القوة: أنا!! قالها بطريقة أكدت أنه لم يحس لدقيقة بالذنب لدم فلذات أكبادنا، لم يشعر بالنار التي في قلوبنا، لم يتألم، لم يهتز ولم ُيعاقب أيضا. فتوجهت لمدير المدينة وسألته بهدوء: هل يعقل أن يترك هذا القاتل عاملاً في المدينة أمام أعين الأمهات الثكالى؟ فرد قائلا : كيف أرفده ولم توجه له تهمة؟ رد قاسٍ .. هل التضليل يغير الحقائق ويجعلنا نصدق بغير الحقيقة ؟ هل تتركون قتلة يتحكمون في أرواح سكان الرحاب الذين يركبون الباصات؟
وبرغم أنه لم يكن لدينا أدنى نية لرفع قضية إلا أن رد هذا المسؤول المليء بالتحدي لأناس مفجوعين متجاهلا مشاعرهم وحقهم جعلنا نقرر أن نأخذ حق أبنائنا من قاتلهم، هذه المطالبة التي تأجلت لأن خسارتنا في أبنائنا جعلتنا ننسى أي شيء آخر حتى أننا لم نحضر التحقيق مع السائق، فقد كنا ندفن أبناءنا.
تحريك القضية
توجه نيابه عنا والد أحد الشهداء وهو اللواء / حاتم عبد الأخر إلى طارق طلعت مصطفى؛ كنا منتظرين نوعًا من المواساة من الشركة المتسببة في وفاة أبنائنا في صورة وضع أسماء الشهداء الخمسة على أحد مساجد الرحاب، أو بناء دار أيتام بأسمائهم لمجرد أن نشعر أن لدي الشركة شعور بالذنب ولكن أن نشعر أنهم يتحدوننا بمساندة القاتل فذلك أكثر مما نحتمل، فالاحساس بالذنب كان يمكن أن يؤكد أن القتل كان خطأ، أما محاولة التضليل والتغطية على القاتل فإنه يحوله إلى قتل عمد.
وللأسف كان رده كرد المسؤول لديه بأنهم لا صلة لهم بالحادث.
هشام: أنا في ايه ولا ايه
وصلنا إلى هشام طلعت مصطفى في محبسه أيضاً عن طريق اللواء/ حاتم عبد الأخر، ظننا أنه وهو ينتظر رحمة ربه ليزيح عنه حكم الإعدام سيشعر بالآخرين ولكن كان رده: " أنا في إيه ولا في إيه ". كل هذه المواقف هي التي دفعتنا لما فعلناه، وخاصة أن الفساد في الأرواح هو أسوأ أنواع الفساد.
رفعنا القضية يوم 27/4/2009 واتجهنا للنائب العام والمحامي العام اللذين ساعدانا في فتح ملف القضية قبل حفظها، وأخذ العدل مجراه؛ التحقيقات أثبتت أن السائق كان يقود الباص بسرعة جنونية برخصة منتهية، والباص بدون فحص فني وتم توجيه تهمة القتل الخطأ للسائق، وحكم عليه بالحبس 7 سنوات والتعويض المدني للمجني عليهم من طارق طلعت مصطفى، نحن لم نكن بانتظار هذا التعويض؛ فالأسر الخمسة قادرة ماديا والحمد لله، وبالفعل كنت قد بنيت مسجدًا بأموال إبني منذ وفاته وُسمي بأسمه وُسلم لوزارة الأوقاف والحمد لله.
ويختم الأب الذي لاتزال الفاجعة تؤرقه حديثه قائلاً: نحن نعلم أن الله اختار لهم الخير، وأن لا شيء سوف يعوضنا فقدانهم، ولكن أتساءل: كيف ماتت قلوب المنشغلين بجمع المال ؟ كيف مات الضمير الإنساني؟ أين المجتمع المدني الذي يواسي بعضه البعض في المصائب ؟ أين نحن من المسلمين الأولين " الصحابة " فعندما كان تحدث لأحدهم مصيبة كالتي حدثت لنا كانت تتوافد عليهم قرى وبلدان كاملة لمواساتهم، أما الآن.. فعليه العوض.. وسند الله هو الأقوي إن شاء الله..وحسبنا الله ونعم الوكيل