خالد عبد الله: تغيير الأنفس بدوام ذكر الموت
كتبت – أمل أحمد
كيف نُحدثُ التغيير في نفوسنا؟ يتم تغيير الأنفس – كما يقول الداعية خالد عبد الله في درسه الأسبوعي كل يوم سبت بمسجد أحمد عفيفي - ضمن منظومة أخلاقية متناغمة، تشمل الالتزام بعدد من الفضائل مثل الصبر والذكر والإنفاق والبذل والإخوة وذكر الموت وغيرها.
هذه الفضائل مترابطة كحلقات السلسلة وهي تمثل صمام الأمان لمن يسير على الطريق، وقد يتفوق المرء في جزئية معينة دون أخرى وهذا أمر طبيعي.
وتحتاج القلوب باستمرار لأن تستيقظ من غفلتها، وليس هناك ما يمكن أن يفعل ذلك أكثر من التذكير بالموت "من أراد واعظا فالموت يكفيه".
إن التذكير بالموت يمكن أن ينقل مجتمعًا كاملا من حال لحال، كما حدث مع بني أمية في عهد عمر بن عبد العزيز، لقد عاش عمر رضي الله عنه في أمة مترفة للغاية وكان هو نفسه فتى منعمًا، فلما ولى الخلافة بعد وفاة سليمان بن عبد الملك تغير حاله وصرف قومه والولاة والرعية عن الإغراق في الملذات إلى التنافس على الجد والعمل بتكرار ذكر الموت، وعالج انحراف الأمة عن الطريق القويم بإشاعة ذكر الموت في القلوب.
كان عنبسة بن سعيد بن العاص صديقًا لعمر بن عبد العزيز، وقد دخل عليه يومًا يقول له: يا أمير المؤمنين، إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤونته، فخرج من عنده، فلما صار عنبسة عند الباب قال عمر: أبا خالد.. أبا خالد فرجع فقال له: " أكثر من ذكر الموت.. فإن كنت في ضيق من العيش وسَّعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيَّقه عليك"
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه". وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك وقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد". رواه الترمذي.
وليس المقصود بذكر الموت أن نتذكره عند شهود الجنائز والصلاة على الميتين، وإنما المقصود ألا يغيب الامتحان المنتظر عن الذهن لحظة، فيربطنا ذلك بالآخرة، ويتراجع من حدثته نفسه بانحراف في قول أو عمل، ويتراجع من كان يريد أن يظلم أحدًا، ولذا يلزمنا تذكر الموت حتى عند النوم فنقول الدعاء الماثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" .. فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك اللهم ربي.. بك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"
ضبط الاتجاه
وكما يقال فإن الموت هو أشد الأحداث واقعية، والحقيقة التي ليس بها أدنى شك، وحتى من ينكرون وجود الخالق لا ينكرون الموت، ومع ذلك يتعامل معه الناس على أنه أمر نسبي.
ويسأل الداعية خالد عبد الله كل واحد منا: هل تدرك في كل لحظة إدراكًا حققيًا أن الموت يمكن أن يأتي في أي لحظة؟ إن هذا الإدراك يضبط اتجاهنا ومسيرتنا، وقد شغلت شدة الموت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنجد أن لما ثقل الموت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، جاءته ابنته عائشة رضي الله عنها، وتمثلت بيتًا من الشعر يقول:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فكشف أبو بكر عن وجهه وقال لها: ليس كذلك ولكن قولي: "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد" (ق19)،
وقد علم المولى سبحانه أن الناس تستبعد الموت بين حالتي السعة مع الغفلة أو الضيق مع اليأس فجاءت الآية بصيغة الماضي لتأكيد حدوثه، وسكرة الموت أي شدته المذهبة للعقل، وقد سئل عبد الحق الاشبيلي: صف لنا الموت فقال:
قـالوا صف الموت يـا هذا وشدته فقلت وامتد مني عندها الصوت
يكفيكم منه أن النـاس إن وصفوا أمراً يرَّوعهم قالوا هو الموت
العظة والاعتبار
ويحتاج كل منا إلى أن يجعل الاتعاظ من الوت مستقرًا في نفسه ولايكون مجرد أمر عابر، وذلك بمداومة زيارة المقابر والتأمل والتفكر عندها في المصير الذي سيؤول إليه الجميع، وقد وقف عبد الملك بن مروان على قبر معاوية بن أبي سفيان فقال: الحمد لله.. عشرين سنة أميرًا وعشرين سنة خليفة ثم صرت إلى هذا.
هل الدهر والأيام إلا كما ترى رزيَّة مال أو فراق حبيب
فلما مات عبد الملك نفسه وجد من يعتبر بموته كما اعتبر هو بموت معاوية، يقول ابن سابط الجمحي: أشار لي إنسان إلى قبر عبد الملك بن مروان، فوقفت أنظر فمر رجل من العباد فقال: لم وقفت ها هنا؟ فقلت: أنظر إلى قبر هذا الرجل الذي قدم علينا مكة في سلطان وأمن ، ثم عجبت إلى ما رُدَّ إليه ، فقال : ألا أخبرك خبره لعلك ترهب؟ قلت: وما خبره؟ قال: هذا ملك الأرض بعث إليه ملك السماء والأرض، فخلع روحه، فجاء به أهله، فجعلوه ها هنا حتى يأتي الله به يوم القيامة مع مساكين أهل دمشق"
وفي عهد عمر بن الخطاب – ولا يزال هذ الأمر قائما في بعض المناطق- كانوا ينادون: مات فلان، فكان عمر رضي الله عنه يردد دائماً:كل يوم يقولون مات فلان، ومات فلان، وسيأتي يوم وسيقولون مات عمر
تجربة لضبط السلوك
ويعرض الأستاذ خالد عبدالله تجربة لضبط السلوك قام به أحد الأشخاص، فقد كان يدخل المقابر وينظر إلى الشواهد ويقرأ من مات ومتى مات؟ فلان الذي اشتهر بالسلطان وغيره الذي اكتسب الكثير من المال وغيره وغيره. فإذا تأمل هذا المشهد خرج من المقابر وقد انضبط إيقاع حياته، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم" إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة"
فإن الزيارة ترقق القلب وتدمع العين، ومن وقف أمام القبر بيقين المعتبر يشعر أن القبر يكلمه مع أنه صامت. والقبر يقول لنا: قد كنت حيًا مثلك ثم مت، وأنت كذلك ميت وآخر يقول لك: أنا ضيعت أمر ربي فلا تشبه أخاك في خيبته. وما وقف عاقل على شفير قبر رآه محفورًا إلا وهيأ نفسه أن يكون في هذا المكان، ويتذكر حين يدخله ويتركه الجميع ويسمع قرع نعالهم ثم يعتدل لكي يُسئل. ماذا يريد الميت؟ إنه يتمنى أن يعود للحياة فيصلي ركعتين، فإن لم يكن - لأنه لن يعود - فكن أنت، ولا تكن خائنًا، وقد قال حاتم الأصم: "من مرَّ بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدعُ لهم، فقد خان نفسه وخانهم"
وللأسف فقد ضاعت هيبة القبور اليوم لأن الناس ألفوا العيش قربها والمرور حولها، وكم من شوارع تجري فيها السيارات ليل نهار تحيط بها القبور من الجانبين، فقد اخترق الأحياء حاجز الأموات فظهرت القساوة وزالت الرهبة
فإذا سارت حياتنا على نسق تذكر الموت والعمل لما بعده، أحب الإنسان لقاء الله، واشتاق إلى الموت، فكان بعضهم يقول: أتعجَّل قدومي على خالقي، وآخر يقول الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب " وما عند الله خير للأبرار" إن ذكر الموت يجعل لعبادتنا مذاقًا مختلفًا لأنها تخرج من قلب مقبل على الآخرة
يقول يحيى بن معاذ: يا ابن آدم دعاك ربك إلى دار السلام (في إشارة لقوله تعالى: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)، فانظر من أين تجيبه، إن أجبته من دنياك، واشتغلت بالرحلة إليه دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها. وقال سفيان: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار.