الشيخ خالد عبد الله يدعونا لعقد معاهدة صلح مع الله
كتبت – أمل أحمد
"كيف يمكن أن نعقد معاهدة صلح مع الله؟" هكذا يقدم الداعية الشيخ خالد عبد الله لدرسه يوم السبت الماضي بمسجد أحمد عفيفي بالرحاب، لضرورة التوبة من الذنوب؛ التوبة التي نحتاجها على الدوام، وعلى الفور. وهو ينقل عن ابن القيم قوله إن المرء يذنب الذنب ولا يتوب، وبعد فترة يتذكر، وهنا تجب عليه توبتان: توبة عن الذنب وتوبة عن التأخير.
وفي القرآن الكريم آيات تحذر من عدم فقه المرء للتوبة، إذ يستمر في الذنوب ولا يتوب حتى إذا جاءت اللحظات الأخيرة يتمنى العودة للدنيا: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت. كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" (المؤمنون 99- 100)
هذه الورطة سببها النسيان، وربما العزة بالإثم، كمن أراد أن يقتلع شجرة فلما رآها قوية راسخة قال أؤجل ذلك للغد، بينما هي في الغد تزداد رسوخًا فيما يزداد هو ضعفًا.
وقد يؤجل المسوفون لوقت لا تُقبل فيه التوبة؛ فالتوبة لها وقتان:
وقت عام لكل الناس قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقد يفاجئ الناس بذلك ولكن يكون قد أغلق باب التوبة.
ووقت خاص لكل إنسان، قبل أن يغرغر، أو تأتيه لحظات الموت، كحال فرعون الذي طغى وتجبر وكذّب موسى عليه السلام " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين" ( يونس90) "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون" (يونس 91- 92)
مقومات التوبة
لماذا لا تسير أمور التوبة كما ينبغي؟ كشخص حج أو اعتمر فلما عاد تراه يسير منضبطًا لفترة ثم يتفلت، كلما يتوب من أمور تثقل الكواهل يعود إليها ثانيةً، فلماذا؟ لماذا لا يوفق المرء لأداء التوبة كما يرضى الله سبحانه وتعالى؟
إن المخلوق منجذب بين أمرين: الطين الذي يشده إلى الأرض " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة
إلا قليل" (التوبة 38)، فالجانب المادي له ثقل يشد الإنسان إلى الأرض، وفي حالة المعصية يزداد ثقل الجانب الطيني.
وأمر روحي يدفعه للسمو والإقلاع عن المعاصي، فأيهما ينتصر؟
التوبة النصوح
التوبة المطلوبة ليست توبة متعجلة غير متأنية. التوبة النصوح تعني توبة صادقة حازمة خالصة تمحو ما قبلها من السيئات، قال عمر: التوبة النصوح، أن يتوب من الذنب، ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه،
أو أن يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبداً،
وقال محمد بن كعب القرظي: التوبة تجمعها أربعة أشياء:
استغفار باللسان، وإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيء الخلان، أي عمل اللسان والبدن والقلب وترك البيئة السيئة الفاسدة.
وقال الفضيل بن عياض:هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه.
وللتوبة تكاليف شاقة على الإنسان، تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل، قال العلماء: التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ولذا سماها العلماء "وظيفة العمر".
علم وحال وعمل
والتوبة علم وحال وعمل:
والعلم قبل العمل كما يقول البخاري؛ وهو العنصر الإدراكي، فبدون العلم لا تعلم مم تتوب. فالعلم أن يدرك الإنسان الخطأ من الصواب، فتنكشف الغشاوة عن البصر، والوقر عن الأذنين، والظلمة عن القلب، وتخرج الحواس من العطلة إلى استئناف العمل لأن الغفلة تعطل الحواس، فلما يتوب المرء تعود الحواس للعمل "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" (الأعراف179)، وهذا ما حدث مع الصحابي أبي لبابة؛ فقد كان بنو قريظة حلفاء له، فسألوه عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا أبا لبابة أتأمرنا أن ننزل؟ فأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذبح، ثم ربط نفسه بسارية في المسجد، سبعًا بين يوم وليلة، في حر شديد لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرة، قال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي. فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصوت من الجهد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرة وعشية، ثم تاب الله عليه فنودي أن الله قد تاب عليك، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه عنه بيده، فقال أبو لبابة حين أفاق: يا رسول الله إني أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأنتقل إليك فأساكنك، وإني أختلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال: يجزي عنك الثلث. فهجر أبو لبابة دار قومه وساكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدق بثلث ماله ثم تاب، فلم ير منه في الإسلام بعد ذلك إلا خيرا حتى فارق الدنيا.
وهكذا بعد العلم، يكون التفاعل الوجداني ويتغير حال الإنسان، ويحدث الندم في القلب والحرقة، وفي الحديث:" الندم توبة" أخرجه أحمد وابن ماجه عن عبد اللّه بن مسعود مرفوعًا، وكذلك حال كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، ووصف الله حالهم " وعلى الثلاثه الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم " (التوبة 118)
وعن الندم ينتج العزم الجازم الأكيد والإرادة القوية وحضور العقل والقلب، ويكون ذلك بين العبد وربه دون واسطة ولا حاجة لكرسي اعتراف.
الحال يتعلق بماضٍ يريد المرء تصحيحه، وحاضر يواظب فيه بالإقلاع عن الذنوب، وعزم أكيد دون تردد ولا انتكاس على ألا يعود إلى الذنب في المستقبل؛ عزم يعلمه الله، فإذا علم الله من العبد الصدق والإخلاص تاب عليه، لذا ندعو قائلين: اللهم تب علينا لنتوب.. فالتوبة إذًا ليست قرار العبد وإنما هي توفيق من الله بناءً على صدق العبد في التوبة.
وللمعصية آثار يدركها المرء فيسارع بالتوبة: "لا يزيد في العمر إلا البر ولا يرد القدر إلا الدعاء وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" أخرجه ابن ماجة وأحمد وغيرهما، و" من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" متفق عليه.
ويقول بعض السلف: إني لأجد أثر معصيتي في خلق دابتي وزوتي، وقيل: ما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة.
وقد وعد الله سبحانه وتعالى التائبين توبة نصوحًا الثواب الجزيل: "عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار" (التحريم 8) و"عسى" حين تكون من اللّه هي موجبة لتكفير الذنوب ودخول الجنة.