حين يضعف الطاغية أمام طفل رضيع
كتبت –امل أحمد
قبل أسبوعين تحدث الداعية الشيخ خالد عبد الله في درسه بمسجد أحمد عفيفي عقب صلاة العشاء من كل يوم سبت عن طغيان فرعون في الأرض، واتباعه سياسة التفرقة بين عناصر الشعب، واستضعافه لبني إسرائيل، فاستباح دماءهم وأعراضهم، وكيف كان هناك تغيير قُدّر الله له أن يخرج من رحم هذه المعاناة.
وها هو فرعون رغم جبروته وطغيانه وادعاءاته الباطلة بأنه الرب والإله إلا أنه كان أضعف ما يكون أمام طفل يخشى أن تكون هلكته على يديه.
وقد كانت بطانة فرعون بطانة سيئة فأشاروا عليه بالقتل والذبح، فكانت إرادة فرعون هكذا، ولكن ماذا تفعل مع إرادة الملك القهار.
وهنا يتجلى معنى أن "والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون" (يوسف 21).. وكل من يقرأ القصص القرآني لابد أن يستقر هذا العنوان في شغاف قلبه، ولذا يقول الله تعالى "ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، فالعلم والمعرفة لا بد أن يثمران حالا وخشية وإيمانًا.
فإذا كنت تعرف أن الله مطلع عليك فكيف تعصاه؟!.. "وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم"( الحج 54)
أراد فرعون أن يقتل موسى.. أراد الله أن يعيش
لم تركب أم موسى بساط الريح وتفلت برضيعها..بل كان أمرًا في غاية التحدي.. سيأتي هذا الرضيع إلى عقر دارك.. فالله غالب على أمره
لم يضروك إلا..
ومن المهم هنا أن نتذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال لي:"يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفـظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لـم ينفعـوك إلا بشيء قـد كتبـه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف". رواه الترمذي وقال: حسن صحيح
فقد قطع الله اليأس من نفع الخلق بقوله :"وإن يمسسك الله بُضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله" (يونس107)
كانت أم موسى في حالة ضعف تستعد لوضع وليدها، بينما جنود فرعون يتربصون بأنباء بني إسرائيل ليقتلوهم. وفي كل زمان وجد فيه فرعون تجد له جنودًا يتصرفون أحيانًا بأكثر مما يريد فرعون، ويفعلون ذلك باسمه.
فهل تضمن أم موسى حياة ابنها إن هي أخفته في البيت؟ أسئلة كثيرة مرت على خاطر أم موسى، ولنتذكر هنا أن الأمن نعمة لا يشعر بها كثير من الناس، فالتهديد بالقتل أو الإيذاء مسألة مرهقة للنفس أيما إرهاق، والوليد يحتاج أكثر ما يحتاج إلى بيت أمه وحضن أمه.
وفجأة وسط هذا الجو من الخوف والفزع يأتي إلهام من الله لأم موسى، وهو ليس وحيًا رساليًا ولكن إلهام يقذفه الله في نفوس غير الأنبياء مثلما قال تعالى: "وأوحى ربك إلى النحل".
"وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين" ( القصص7)
وهذه آية قرآنية قمة في البلاغة، إذ فيها خبران وأمران ونهيان وبشارتان.
ونلاحظ أن الفرق الزمني بين البشارتين يمتد لحوالي أربعين سنة، ما بين مولد موسى عليه السلام وبعثته، لأن معظم الأنبياء جاءتهم الرسالة في سن الأربعين.
جاءت البشرى لأم موسى وهي في أشد لحظات الضعف وقلة الحيلة، حيث لا ترى أي بارقة أمل في انقاذ وليدها، وقد لا يستيقن الإنسان ساعة ضيقه إمكان تحقق البشرى، وقد نستعجل الوعد ونحن في الضعف والإذلال، ولكن إذا قرأنا قصة سيدنا موسى ورأينا ما كان فيه بنو إسرائيل من ضعف ثم نقرأ البشارات.. ساعتها نثق في موعود الله تعالى.
إنما ذكرته سورة طه قد يصيب الأم بالسكتة القلبية:أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له. كلمات قوية: قذف وإلقاء.. وفي النهاية يقع موسى في يد عدوه وعدو الله.
صراع الطبع والشرع
وهنا يستطرد الشيخ خالد عبد الله في نفطة محورية حول العلاقة بين الطبع والشرع؛ فالطبع يريد شيئًا والشرع يريد شيئًا آخر.. فمن نقدم؟ الطبع أم الشرع؟
ففي أمور الجنة والنار، نجد أن الطبع لا يوافق الشرع، ونحن نحتاج إلى ضبط الطبع على الشرع.. ونجد أن من حكمة الله تعالى أن كثيرًا من الشرع يخالف الطبع، وخذ مثلا: صلاة الفجر.. هنا الطبع لا يوافق ترك النوم والدفء والنزول للصلاة في البرد. وهناك من يغلب الطبع وينام ولا يهتم وهناك من يغلب الشرع، وكلما غلبت الشرع زاد الإيمان، وكلما غلبت الطبع نقص الإيمان، وهناك من يغلب الشرع على طول الخط، كما أنهناك من يغلب الطبع على طول الخط.
فأي طبع يقبل بأن ترمي أم ابنها في الماء؟
إنها حالة صراع غير مسبوق.
ومثل ذلك وحي الله لسيدنا إبراهيم أن يترك زوجه وابنه الرضيع في وادٍ غير ذي زرع، لكن اليقين الذي كان عند إبراهيم تحول إلى زوجه هاجر أيضًا فقالت اذهب فلن يضيعنا الله.
ثم يتكرر الأمر بأن يذبح إبراهيم ابنه..ولد جاء بعد طول زمن نعرف كيف تكون محبته في القلب، ومع ذلك أُمر إبراهيم أن يذبحه فغلب الشرع على الطبع.
وغلبت أم موسى الشرع على الطبع وقذفت بابنها.. وليتها تخلت عنه ليكون في مأمن بل ليأخذه عدو له وعدو لله.
والمؤسف أن نجد بعض العلماء لا ينهضون بالناس إلى الشرع، وإنما يستجيبون للطبع، بل إن البعض يزايد على الطبع فيتساهل حتى أصبحت الطبائع هي الدين.
وصل موسى إلى بيت فرعون "ليكون لهم عدوًا وحزنًا" وحرف اللام الذي يسبق فعل يكون يسمى "لام العاقبة" أي يكون الأمر على عكس ما أرادوا. فأنت يا فرعون تبحث عن طفل من بني إسرائيل لتقتله؟ ها هو أمامك وليد ضعيف لا يملك حولا ولا قوة، في عقر دارك.. ومع ذلك لم تمسه بسوء بل تنفق عليه وتجلب له المراضع حتى يرضى بالرضاعة من أمه فتعطيها أجرة الإرضاع لابنها.
الشيطان يعد
ورغم البشارات الربانية فإن الشيطان لا يعدم الوسيلة لإفساد حال العبد مع ربه، فالشيطان يعد، وفي لحظات الضعف يميل الإنسان إلى وعد الشيطان وينسى وعد الله القاطع الواضح الصريح.
وهكذا اصبح فؤاد أم موسى فارغًا مذهولا ، أصبحت فاقدة للتوازن؛ كيف تفعلين ما لم تفعله أم من قبل؟ من أدراك أن ما جاءك هو وحي من الله؟.
ووصل بها الحال أن كادت أن تبدي به، أي تكشف سر وليدها " لولا أن ربطنا على فلبها".. وهنا تظهر قيمة التواصل واليقين والإيمان بالله، مما يجعلك تنفصل عن هواجس الشيطان لذلك كان الدعاء "لا تكلني إلى نفسي طرفة عين"
والربط على القلب يحدث كثيرًا في ميدان الجهاد السلمي مثلما يكون في الميدان الحربي، فقد ربط الله على قلوب أهل الكهف الذين تركوا الذين اتخذوا من دون الله آلهة، كما ربط على قلوب المسلمين في غزوة بدر.
(وللحديث بقية)