لقصة السيدة مريم في القرآن الكريم مكانتها وقامتها العالية، فهي فوق أسطوريتها وإعجازها، امرأة تلد طفلا دون رجل، وعندما يكبر هذا الطفل يصبح نبيا يمنحه الله من قوته فيأتي بمعجزات خارقة كأن يحيي الموتي بإذن الله ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وعندما يأتي هذا النبي ليموت يرفعه الله إليه بعد أن يقع بشبهه علي أحدهم فيصلبوه بدلا منه.
قصة تكتمل لها كل عناصر التشويق والإثارة والمتعة، لو قابلتها في كتاب كتبه بشر لن تغادرها قبل أن تأتي عليها جميعها، فما بالك ومصدر القصة سماوي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، إن هذا يمنحها ثقلا وقيمة كبيرة لا يمكن أن تمر علي أحد.
لكنني هنا لن أتوقف عند القيمة الروائية والسردية لقصة السيدة مريم في القرآن الكريم، فالربط بينها وبين ما نعيشه من أحداث يتوقف لدي عند نقطة مهمة جدا، وهي نقطة يمكن أن نربط بها بين قصة السيدة مريم وبين قانون من أين لك هذا، فهي أول من طبق عليه هذا القانون وبشكل صارم.
لا تتعجب فالقصة تتوالي علي لسان القرآن، فقد نذرت أمها ما في بطنها محررا لله، ودعته أن يتقبل منها، كانت الأم تتطلع لأن يكون ما في بطنها ذكرا حتي يقدر علي الخدمة في بيت الرب، لكنها عندما وضعت وجدتها أنثي، حاولت أن تعتذر أن تتراجع قالت إن الذكر ليس كالأنثي، وعليه فإن الفتاة لن تذهب إلي المحراب، لكن عدالة السماء رفضت منطق ابنة عمران، حيث تقبل الله الفتاة وقبل أن تخدم في بيت الرب.
قد تكون هنا إشارة يرفضها الجميع في التعامل مع القرآن، فكلمة"وليس الذكر كالأنثي"التي وردت في سورة آل عمران وفي آية نصها الكامل"فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثي والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثي"، هذه الكلمة ليست حكما قرآنيا ولكنها كلمة قالتها أم السيدة مريم، بما يعني أنها ليست حكما إلهيا، ثم أن هناك ما يؤكد أن ما ذهبت إليه ابنة عمران كان خطأ كبيرا أن الله قبل ابنتها مريم للخدمة وكأنه يريد أن يقول إن الذكر كالأنثي ولا فرق بينهما علي الإطلاق.
كان لابد للسيدة مريم من أحد يكفلها وقد كفلها نبي الله زكريا، وقصة الكفالة هذه مشهورة ومعروفة، في تفسير ابن كثير أن الله يخبر أنه تقبلها من أمها نذيرة وأنه انبتها نباتا حسنا أي جعلها شكلا مليحا ومنظراً بهيجا ويسر لها أسباب القبول وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين، وكفلها زكريا كما يقول ابن اسحاق لأنها كانت يتيمة، ومن بين ما جاء في هذا الخبر أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك.
وفي تفسير الجلالين أن والدة السيدة مريم أتت بابنتها إلي الأحبار سدنة بيت المقدس وقالت لهم:دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها أنها بنت إمامهم، فقال زكريا أنا أحق بها لأن خالتها عندي، لكن الأحبار رفضوا حجة زكريا فليس معني أنه زوج خالتها أن يكون الأولي بها، اقترحوا أن يقترعوا فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلي نهر الأردن وألقوا أقلامهم علي أن من يثبت قلمه في الماء ويصعد يكون أولي بمريم.
وكان أن ثبت قلم زكريا فأخذ السيدة مريم وبني لها غرفة في المحراب وخصص لها سلما لا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها، لكن كان يحدث شيئا غريبا في كل مرة وهو ما تشي به آية آل عمران"وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب".
كان زكريا يجد عجبا في محراب مريم، فهو يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ويجد فاكهة الشتاء في الصيف، كان يعرف استقامتها وحسن سلوكها، وكان يعرف أن لا أحد يتردد عليها، أي أن كل أسباب الفساد بعيدة عنها كل البعد، بل إنها لا يوجد مجال للشبهات فيما يجد عندها من طعام، ثم أنه يعرف أنها فتاة منذورة لله، وأن الله اصطفاها وطهرها واصطفاها علي نساء العالمين، لكنه ورغم معرفته بكل ذلك ورغم معرفته الأكيدة بمن رباها، لكنه سأل السؤال المهم:من أين لك هذا؟
لقد رأي زكريا شيئا يخاصم الأسباب المنطقية والمادية في الحياة، فتاة صغيرة لا تخرج من حجرتها ولا تعمل أي ليس لديها ما تشتري به كل هذا الطعام، ثم وهو كفيلها لم يأت لها بشيء من هذا، إذن فلابد أن أحداً جاء به، وكان مهما أن يكشف عن هذا الأحد وعن صلة مريم به، وعن المقابل الذي دفع فيه، وذلك حتي تستقيم الأمور.
ما كان زكريا ليقبل أن تصمت السيدة مريم أو تقول له إن هذا ليس من شأنه أو تعتصم بأنها لا تريد أن تفصح عمن أتي لها بهذا الطعام، قالت:هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، هذا رد بالطبع يتناسب مع أسطورية وإعجاز القصة كلها التي عاشتها السيدة مريم، فالسماء كانت حاضرة طول الوقت، تمد يدها بالعون في الوقت المناسب ولا تتأخر أبدا.
الإجابة من السيدة مريم لسيدنا زكريا في هذا الوقت وهذا السياق منطقية وطبيعية جدا، إن القرآن يكشف أن قانون من أين لك هذا؟ ليس قانونا أرضيا من اختراع البشر لمحاسبة بعضهم البعض، ولكنه قانون إلهي تعامل به أشخاص اصطفاهم الله وطهرهم ورباهم علي عينه، وحكموا به علي أنفسهم، وليس البشر الآخرين في كل زمان ومكان أكبر وأهم من هؤلاء الذين هم في النهاية أبناء الله.
لكن هل يمكن أن نعتبر أن مثل هذه الإجابة التي أجابت بها السيدة مريم علي زكريا :هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، مناسبة للعصر الذي نعيش فيه، ومناسبة لرجال الأعمال الذين يتحكون بيننا، وبين طرفة عين وانتباهتها تتغير أوضاعهم من حال إلي حال، ومناسبة لمسئولين كبار في السلطة دخلوا إلي الحكم وهم فقراء وبعد سنوات قليلة أصبحوا يلعبون بالملايين ويسكنون في أرقي الأحياء، ومناسبة لنواب في مجلس الشعب كانوا لا يجدون ثمن الحلاقة قبل دخولهم مجلس الشعب، وبعد أن دخلوا البرلمان يتحولون إلي بشر متوحشين لا يعرفون كم يملكون من كثرة ما لديهم.
لو استسلمنا لمثل هذه الإجابة منهم فإننا نمنحهم فرصة ذهبية لأن يمارسوا الضحك علي الذقون وبمنتهي البراعة، فكل شيء من عند الله نعم ولكن في النهاية هناك أسباب، وهناك مصادر لابد أن تكون معلومة لتكوين الثروات في مصر.
علي هامش تكوين الثروات هذه أنتج المصريون نكتة أعتقد أنها وثيقة الصلة جدا بقانون من أين لك هذا:بيقولك إن قوات حرس الحدود أمسكوا بإبليس وهو خارج من مصر وهو في منتهي الغضب والثورة والضيق، ولما سألوه:عاوز تسيب مصر ليه يا إبليس؟قال لهم:يا جماعة بلا قلة أدب.. الناس في مصر بقت غريبة جدا، أساعد الواحد منهم إن يسرق ويقتل ويغتصب ويرتشي ولما يكون ثروة كبيرة يقعد علي مكتب فخم ويعلق وراه يافطة يكتب عليه بالبنط العريض:هذا من فضل ربي.
النكتة الشعبية التي لا يخفي عليها شيئاً أمسكت بحقيقة ما يجري علي أرض مصر، فكل ألف سبب للفساد يقوم بها جامعو الثروة، لكنهم لا يعترفون بذلك مطلقا، بل يعتبرون أن ما لديهم رزق من الله، ولذلك لا تتعجب عندما تري الفاسدين وهم أكثر من يذهب إلي الحج ويكررون العمرة أكثرة من مرة في العام، إنهم لا يغسلون ذنوبهم فقط ولا يشترون التوبة بأموالهم فقط، ولا يتعاملون مع أن العمرة إلي العمرة مكفرات لما بينها إذا ما اجتنبت الكبائر.
إن الكبار يذهبون وهم علي ثقة أنهم لا يخطئون وأن الله أعطاهم كل هذه الأموال لأنه يحبهم، فهو لو كان يكرههم ما كان له أن ينعم عليهم بهذه الطريقة، ولذلك تجدهم يبالغون في إظهار أعمال خيرهم، وكأنهم يريدون أن يقولوا للجميع إنهم أهل الله وأهل الخير وأن الجنة لهم في النهاية.
إن تكوينة المصريين النفسية لا تمكنهم من مراجعة أنفسهم أبدا، وإليك تدليل واحد، في واحد من أروع مشاهد دراما رمضان في مسلسل الرحايا، وقف نور الشريف الذي يلعب بطولة المسلسل بشخصية محمد أبو دياب مع خليل مرسي واحد من رجاله اسمه الهضبي، الهضبي هذا من مطاريد الجبل، يستخدمه محمد أبو دياب في تنفيذ عملياته القذرة، لكن فجأة وجد الهضبي يستعين بشيخ في المغارة التي يعيش فيه بالجبل، وعندما يسأله عما يفعل هذا الرجل، يقول له:بيؤمنا في الصلاة.
وقبل أن يتعجب نور الشريف مما يفعله الهضبي يجده يطلب منه أن يساعده ليحج بيت الله، يتعجب نور الشريف من الطلب ويقول له:إنت عارف أنت قتلت كم نفس يا هضبي فيقول له:كتير، لكن الصلاة برضة حلوة، ولما يسأله نور الشريف:وهل ستعود إلي الجبل بعد أن تحج يقول له: لا سأعود إلي البلد أنتظر قضا ربنا.
هذا المشهد الرائع الذي صاغه ببراعة الكاتب عبد الرحيم كمال يرسم خريطة المصريين النفسية التي يتعاملون علي أساسها مع الله سبحانه وتعالي، فهم يفعلون كل الموبقات ثم يسألون الله أن يسترهم ويسلم طريقهم، وعندما تسألهم عن أي شيء لديهم يقولون لك إنه من عند الله.
لا يمكن أن نسلم بالطبع أن:هو من عند الله التي قالته السيدة مريم هي نفسها التي يقولها المصريون، لكن ما لابد أن نقره أن قانون من أين لك هذا وبإشارة قرآنية يجب أن يطبق علي الجميع لا فرق في ذلك بين رئيس ومرءوس، بين وزير وخفير، بين رجل أعمال كبير لديه مليارات الدولارات وعامل بسيط، لابد أن يعرف الناس أسباب الثراء التي تظهر علي بعضهم البعض، خاصة إذا كان هذا الثراء لأسباب مجهولة أو غير معلومة أو مريبة.
هذه بالطبع ليست دعوة للتمرد الاجتماعي، ولا دعوة لثورة يقوم بها فقراء هذا الوطن علي أثرياءها الذين أخذوا كل شئ ولم يتركوا للفقراء أي شئ، ولكنه دعوة مؤكدة لتطبيق القانون علي الجميع، لقد لفت نظري أن حملة الإعلانات التي تقوم بها وزارة المالية الآن عن قانون الضرائب الجديد تركز طول الوقت علي مصريين بسطاء وعاديين جدا، أصحاب محلات صغيرة وصنايعية، لم تقدم لنا الحملة حتي الآن رجل أعمال ثرياً يربح بالملايين وتقول لنا كيف تحاسبه أو تنصحه بألا يتهرب من الضرائب، لكنها تركز فقط علي الصغار بما أعطي إيحاء أن الدولة لا تجمع الضرائب من الأغنياء وإنما تفعل ذلك مع الفقراء فقط.
وقد يكون هذا هو سبب تهرب الفقراء من دفع الضرائب، فإذا كانت الدولة تسألهم هم عن كل صغيرة وكبيرة، وتترك الكبار يفعلون ما يشاءون دون أن تسألهم أو تعترض طريقهم، فلماذا يكلفون أنفسهم ويساعدون هذه الدولة الظالمة الجائرة التي لا تحكم بالعدل.
لقد كانت الكلمة التي قالتها السيدة مريم بسيطة جدا لكنها تحمل في طياتها الحلول لمشاكل كثيرة نعاني منها الآن، كلمة يمكن أن تنهي الفساد الذي نعيش فيه ووصل إلي الحلقوم، لقد تضخم الجميع إلي حد التخمة ولا سبيل للخروج منها إلا بقانون السيدة مريم، فهل نقدر علي تطبيقه.. ربنا يعين. |