ابراهيم عيسى يكتب عن العلاقة بين المسلمين والمسحيين فى مصر
أكاد أجزم أن دعوة الرئيس مبارك للمثقفين بالدخول إلي معركة مواجهة الفتنة الطائفية لا تعني عند الرئيس ولا
رجاله ولا مؤسساته إلا أن يخرج هؤلاء المثقفون ليقولوا ما يرضي عنه الرئيس وما يريح الرئيس وما يريد الرئيس لهم أن يقولوه، أما أن يتحدثوا فعلا وصدقا وحقا وشرحا وجرحا وفهما وعمقا فهذا سوف يجعلهم من وجهة نظر الرئيس نفسه ومن معه ( ومن به ) دعاة فتنة ومثيري فتن وسوف يرجمهم ضباط الرئيس في الداخلية والإعلام بكل التهم المحفوظة والمعلبة!
لكن يبقي أن الرئيس مبارك لأول مرة يعترف بوجود الفتنة الطائفية ومناخ التطرف والتعصب الديني بعد سنوات طويلة من التجاهل ولأول مرة يطالب بحل من خارج أجهزة الأمن في إشارة إلي تفاقم الأزمة وتجاوزها قدرات الضباط، فضلا عن أنه في خطابين متتاليين في أسبوع واحد يلح في الكلام عن الفتنة ثم يشرع بتوجيه انتقادات واضحة وإن كانت مخففة لمؤسستي الأزهر والكنيسة، هذه علامات خير فالرئيس يهتم ويتهم، والرئيس يتخلي عن النظرة الأمنية ويتحلي بالرؤية الأوسع الأشمل للأزمة التي لم يعد الأمن حلا لها بل ربما يتشارك في تضخيمها وتأزيمها واستمرارها.
هنا أنا لا أستجيب لدعوة الرئيس وإن كنت أتمني أن أفعل، لكن الحقيقة أنني كتبت كثيرا وبإلحاح ومنذ نعومة أظافري الفكرية أجيب عن هذا السؤال : ماذا حدث للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر؟ وقد نشرت مقالا عام 1994في مجلة روزاليوسف حيث كنت أعمل، وضمه كتابي (الحرية في سبيل الله ) الذي صدر عام 1995واحتل غلافه هذا السؤال كعنوان تفصيلي، ثم كتبت عام 2006مقالا بعنوان «وطني المختل» في الدستور حيث مازلت أعمل وضمه كتابي (عن مبارك عصره ومصره، ) الذي صدر عام 2007، سأعود معكم لهذين المقالين الذي يفصل بينهما اثنا عشر عاما فقط كمثالين عن عشرات المقالات والأعمدة وفصول الكتب التي ناقشت فيها هذه المسألة الطائفية، لتعرف فقط أن هذه الرؤية واضحة ومفصلة منذ زمن، وأن أحدا لا يلتفت ولا يهتم ولا يغتم، وهذا ما تحصده دولة تتجاهل وتتعامي عما يكتبه مثقفون ومفكرون بينما تكتفي بتقارير أمنية يكتبها ضباط أو مثقفون مخبرون لدي الدولة وأجهزتها، الأزمة بعيدة وعميقة وتتراكم وتتفاقم دون أن يقترب أحد من حلها، تعال نبدأ بمقال عام 1994 حيث كتبت (تغيرت وتعكرت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر)، هذا الاعتراف الأخير هو الحل الأول لإنقاذ مصر من مشكلة طائفية حقيقية. أما إصرار البعض علي أن مصر بلد متسامح وأن الشعب المصري طوال عمره طيب ومسالم ويحب شقيقه المسيحي وهذه القصص - الجميلة فعلا والحقيقية تماما - عن المشاركة والتوحد بين المسلمين والمسيحيين في مصر. فلم يعد يجدي. لقد صارت فعلا جماعة ضخمة من المسلمين المصريين علي قناعة أن المسيحيين «كفرة»!!. هناك جماعة أخري من المسيحيين المصريين تعصبت، تطرفت وأخري شعرت أنها فقدت مبرر وجودها في مصر!! إنني أكاد أخرج أجري في الشوارع كبلهاء حي السيدة زينب لأحذر من أن النار قد اشتعلت في مصر بين المسلمين والمسيحيين ؛ نار مكتومة، مكبوتة في الغالب، لكنها قائمة علي التفرقة بينهما وعلي العنصرية المتبادلة. هذه أسبابي وشواهدي :
أ ) المد الضخم والسرطاني للتيار المتطرف في الجامعات والذي بدا فور الفصل بين المسلمين، المسيحيين شرطا لإثبات وجوده، استعراض قوته وإلقاء اللوم علي الآخرين، إحكام نظرية المؤامرة الكونية ضد الإسلام والمسلمين سبيلا للحشد والتعبئة.
ب ) المدارس الإسلامية الخاصة ؛ لقد عرفت مصر منذ الأبد مدارس الراهبات والمدارس المسيحية ؛ لكنها كانت تستوعب داخلها المسلمين والمسيحيين معا ؛ هناك الآلاف وربما الملايين الذين تخرجوا في هذه المدارس دون أن يحملوا كارثة الفتنة والتفرقة ؛ بل كان هناك حرص شديد من عائلات شتي علي إرسال أبنائهم المسلمين وبخاصة البنات إلي مدارس الراهبات لهذه الصرامة في التربية الأخلاقية التي تلتزمها الراهبات في التدريس. لكن المدارس الإسلامية الجديدة (وهي تتكاثر وتتزايد ) بدأت أولا برفض الآخر، ثم حولت تربية الأطفال إلي الفصل منذ أول لحظة بين المسلمين والمسيحيين ثم في مرحلة لاحقة أصبح علي نفس المستوي وبنفس الحماس ؛ الأم غير المحجبة كافرة والجار المسيحي كافر.. وهكذا نشأت أجيال تصل الآن إلي العشرين من عمرها تقريبا علي هذه الأفكار.
ج) الاستيلاء شبه الكامل علي مهنة التدريس ؛ إن 16 من قادة ما عرف بالجماعة الإسلامية في الصعيد كانوا مدرسين.. ومدرسين في المرحلة الابتدائية.. كفاية.
د) نجومية شيوخ الفتنة وتحولهم إلي شخصيات من القداسة والأسطورية التي لا يستطيع أحد أن يناقشها أو يجادلها أو يختلف معها.
هـ) ( وهو أمر يستحق الأولوية الأولي في هذه الأسباب ) ظاهرة الهجرة إلي النفط، قد تمكنت دولة نفطية من «غرز» أفكارها العنصرية تجاه المسيحيين وتصديرها إلي مصر عبر الملايين الذين سافروا وأقاموا هناك لفترة.. وإذا كان البحث الاجتماعي والعلمي في مصر ليس في غفوته الحالية لتمكنا من العثور علي عينات نموذجية تؤكد أن هذه العنصرية قد سيطرت علي منافذ شعور المواطن المصري العائد من سنوات الهجرة إلي النفط.. وأحسب أن ملاحظات كثيرة نسمعها من هؤلاء العائدين تدل دلالة مباشرة علي مكمن خطورة الأمر حين يفتخر بعضهم بأنه لا توجد في السعودية أي كنيسة ( كأنه مبعث فخر ألا توجد هناك كنائس، بينما توجد القواعد العسكرية الأمريكية وشركات البترول متعددة الجنسيات ؟! ). إلي هذا الحد من البلاهة والحمق تقاد عقول المصريين.
و) هناك حملة منظمة ممولة لشرائط الكاسيت التي تغذي فكرة التفرقة بين المسلمين والمسيحيين قادمة من الخليج والسعودية وليس خافيا أن هذه الشرائط هي الأكثر مبيعا.
ز ) في حالة الإحباط القومي والوطني التي يعيشها المصريون فإنهم يبحثون عن أي «ضحية» أو أي «متنفس» لإلقاء اللوم والذنب عليه، كما تنسحق المرأة باعتبارها كائنا مهيأ للقمع والقهر في وطننا، فإن المسيحي كذلك يصبح - من منطلق أنه «آخر»، «مختلف»، «أقلية» - محطا لكل إحباطات وعدوانية الآخرين.
ح ) يجب أن نؤكد أن كثيرا من قطاعات وشرائح الشعب المصري قد تربت علي «نفي الآخر»، فكرة «الحزب الواحد»، «التنظيم الواحد»، «الفكر الواحد»، «الرأي الواحد» و«الدين الواحد». رغم أن الدين الإسلامي أكد بعشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة احترام الآخر وحقوق المختلفين في الدين ؛ وقد أدي هذا إلي ما أدي إليه.. ويا رب لا نسألك رد القضاء.. ولكن نسألك اللطف فيه.
ياه كتبت هذا الكلام بنصه وفصله وعمري تسعة وعشرون عاما (لا أستطيع أن أمنع إعجابي النزق بنفسي!!)، ننتقل إذن إلي ما كتبته وعمري واحد وأربعون عاما في الدستور 2006، تحت عنوان «وطني المختل»، قلت : هناك مناخ طائفي قائم علي كراهية متصاعدة ومتنامية بين المسلمين والمسيحيين في مصر وتوتر محموم وصدام مقموع يبرز في توهجات مفاجئة ويكمن معظم الوقت تحت الجلد وفي عمق العقل والقلب يزداد اشتعالا ويتغذي بثقافة كراهية وعدوانية تبث وتذاع كل يوم في الجوامع والكنائس والتليفزيون والصحف!
لا هي قلة مندسة ولا أيد أجنبية ولا متعصبون علي الجانبين ولا أطراف تشعل الفتنة، مثل هذه التحليلات النعامية (نسبة إلي النعام الذي يدفن رأسه في الرمل حتي لا يري الحقيقة) هي سر امتداد هذه الفتنة وانتفاخ هذا المناخ الطائفي الذي نعيشه (أو نموته) هذه الأيام، المظاهر يومية وتفصيلية وواضحة وها هي حوادث القتل والتحريق والتوليع تنتقل من الصعيد إلي بحري إلي الإسكندرية وفي أي وقت ولأي سبب يمكن أن تنفجر حادثة فتنة طائفية سواء من أجل امرأة أو من أجل دورة مياه أو كنيسة قصاد جامع ولا واد مسلم طري أحب بنتا مسيحية مايصة! تُنزف دماء ويموت أبرياء من أجل صغائر ومساخر مثل هذه وأكثر تفاهة وأشد هيافة!
لماذا تحول مجتمعنا إلي هذا المجتمع الطائفي الكاره والكريه ؟
1- أظن أن هناك حالة من الهزيمة العامة والشخصية تملأ نفوس المصريين، مجتمع مهزوم أمام العالم الغربي الذي يبدو متفوقا في كل شيء ومالكا لكل شيء، فكيف يشعر المجتمع المصري أنه أحسن وأجدع، إزاي ومن مين وعلي مين؟ تماما كما هزيمة المواطن في وجه الحكومة التي تسلبه كل شيء وتقمعه وتفلسه وهو لا يقدر عليها ولا علي مقاومتها فيستسلم لهزيمته المادية والحضارية لكن لابد له من الشعور بالكرامة والتفوق، وكما يحدث حين يهزأ المدير الموظف عنده ويطلع عينه فيذهب الموظف ويطلع عين مراته ويضربها حتي يشعر بقوته فما يكون من الزوجة إلا تقطيع العيال ضربا حتي تشعر هي الأخري بتفوقها وقوتها فضلا عن إنزال العقاب بأحد احتجاجا علي وضعها وضعفها، بنفس الدائرة الجهنمية تلك يقوم المجتمع المصري المهزوم بتطليع روح الأقباط عدوانا وكراهية حتي يشعر أنه أفضل من آخرين، فإذا كنا مذلولين ولا قيمة لنا فعلي الأقل نحن أحسن من الأقباط اللي فيهم وفيهم، وبدلا من مواجهة واقعي وضعفي أستقوي علي الضعيف وأفتري عليه وعلي اللي خلفوه بحثا عن نصر وتفوق يعيد لي بعض الكبرياء.
2- أظن أن سيادة نمط من التدين المغشوش والمنقوص في الروح المصرية مسئول هو الآخر عن بث الكراهية والعدوان بين المسلمين والأقباط فالتدين السائد تدين لا يأخذ من الدين سوي الشكليات والقشور من المصحف الذهبي في السلسلة علي الصدر إلي الصليب في ذات السلسلة، الدين لدي قطاع مذهل في ضخامته في مصر هو مجرد طقوس وشكليات وتمائم وتمتمات، ومن ثم يعتمد التدين الشكلي علي إظهار التدين وليس ممارسته، التدين المنقوص، تدين الشكل، يستهدف دائما مواجهة الشكل المنافس والمضاد، ومن ثم يحتم التدين القشري علي المتدين أن يكره رؤية الصليب، أن ينزعج من ملابس قسيس، أن يرفض بناء كنيسة في الحي أو الشارع بتاعه أو يجمعوا مئات الألوف من الجنيهات لبناء جامع في مواجهة مبني كنيسة قديم! مبني أمام مبني، شكل أمام شكل!
3- أظن ( لا أنا متأكد من هذه!) أن النفاق العام في مصر واحد من ثوابت المناخ الطائفي ومسبب هائل من مسببات ومفجرات الفتنة الطائفية، والنفاق في صورته الجلية أن يكون الشخص فاسدا ومرتشيا ولكي يغطي فساده يبالغ في إظهار تقواه وإيمانه ولكي يعوض موبقات النهب والرشوة والسرقة فهو يفرط في الزكاة والتصدق أو التشدد والمغالاة في إظهار التدين ومنه النقمة علي المسيحيين والطعن في الأقباط، وقد علمتنا التجارب أن أكثر المتحدثين عن الشرف هم اللصوص وأكثر المسبحين والمصلين إظهارا لصلاتهم وتسبيحهم هم النصابون وأكثر الناس تصدقا معلنا هم تجار المخدرات والراقصات وأكثر المساجين في تهم الرشاوي والنهب يحملون لقب الحاج فلان! النفاق بالتدين الظاهر المتحمس ضد المسيحيين يغطي أخطاء وجرائم بحثاً عن مغفرة محتملة لإثم مؤكد، فتجد كثيرين مستعدين للتبرع بشقة من أجل بنت مسيحية أسلمت وفجأة يجد عاطل مسيحي وظيفة محترمة حين يعلن إسلامه! وهكذا.
4- أظن أن الجهل يلعب دورا تأسيسيا في ظاهرة الفتنة الطائفية فأغلب الناس في مصر تأخذ ثقافتها الدينية عن طرق الأنف والأذن والحنجرة وليس عن طريقة القراءة والبحث، سمعيا وصوتيا عن طريق وعاظ وخطباء الجمعة وأغلبهم جهلة في الحقيقة، أو عن طريق برامج متناثرة في تليفزيون أو إذاعة وشرائط، أو ثقافة متداولة شفويا بدس الأنف في موضوعات دينية غير دقيقة تنتقل من شخص للتاني علي طريقة سمعت ومرة قال شيخ وقالوا لي ومثل هذه الأفكار السماعية التي لا تستند علي علم ولا فقه ولا تاريخ، فيفتقد الناس الأصول من المراجع والكتب ويصبحون عبيدا لفكرة واحدة ونص مبتسر مبسط حتي التسطح ولا يبذل الكثيرون من أبناء هذا الوطن عموما أي جهد في المعرفة والتثقيف الديني الحقيقي وهم أسري ما يسمعون وما يحبون أن يسمعوا ويفهموا ومن السهل بالجهل أن تصبح متطرفا ومهووسا!
5- أظن أن الفراغ السياسي الذي يعيشه المصريون واحد من أعمدة الخيبة الطائفية التي نتعايش معها تلك الأيام، فلا توجد حياة سياسية في مصر وغير مسموح للناس بممارسة السياسة وحكمنا فرعوني طاغوتي طغياني وحكومتنا قامعة قاهرة فاسدة وأحزابنا تافهة فارغة مسنة عجوز ومخرفة والجامعة محرمة علي نشاط الطلبة السياسي والشباب ممنوع من انتخابات حرة شريفة في المدارس أو الجامعات وكل شيء في مصر محتكر، يدخل الناس الجوامع والكنائس من باب البحث عن الشبع الروحي والامتلاء النفسي ثم تتطور الأمور أو تتدهور من التماسك النفسي إلي التمسك المتعصب إلي التشدد إلي التطرف إلي الكراهية والعدوان.
6- أظن أن الإعلام في مصر طائفي والتعليم متطرف لا يتسم بسماحة ولا انفتاح أفق وأجهزة الأمن في مصر متعصبة ومهووسة، ومن ثم تسود في مصر ثقافة كراهية ضد الآخر المختلف عنا سواء الغرب الخارجي أو المصري علي غير ديانتنا أو المسلم علي غير مذهبنا،
هذا ما كتبته علي مدي هذه السنين.
أنا عملت اللي عليَّ!
|