يعرف أتباع الطرق الصوفية معنى كلمة «مدد».. فأولئك يطلبون العون من أولياء الله الصالحين، وكذلك المتمسحون بأعتابهم.. واعتقادى أن «سيدى نظيف أفندى» يستحق أن يكون واحدا من أصحاب «المدد».. وكذا مريدوه من باقى أفراد «عيلة نظيف أفندى»– لا أحتاج إلى التوضيح أن تلك سخرية!!
يقولون إن الفقراء وحدهم لا يجدون العون والرعاية من «عيلة نظيف أفندى»، ومع القائلين كل الحق.. المفاجأة أن الأغنياء وأثرياء القوم من «دراويش العيلة» يعانون المعاناة ذاتها.. قبل أن تصرخ فى وجهى أو تلعننى.. تعال واسمع الحكاية من أولها، وفى نهايتها دلنى إذا كانت «عيلة نظيف أفندى» مع الأغنياء أم أنها ضدهم.. كما الفقراء تماما!!
فى منتصف الليل دق بابى بعنف شديد، سائل أعرفه.. هو نفسه حارس العقار الذى أعيش فيه.. يصرخ.. يسألنى المساعدة، لأن والده يعانى أزمة صحية وفى حالة احتضار.. هرولت.. ارتديت ملابسى.. سابقت الزمن لأقود سيارتى.. حملنا «عم إبراهيم» الرجل المسكين بين الحياة والموت.. سألنا عن أقرب مستشفى فى القاهرة الجديدة.. قالوا: اذهبوا إلى مدينة الرحاب.. وصلنا بسرعة البرق.. كان هناك مركز طبى فى منتهى الفخامة– من حيث الشكل– فيه عدد من الأطباء الشباب لا حول لأيهم ولا قوة.. كل ما فعلوه أنهم قالوا لنا: الحالة خطيرة جداً.. الرجل بين الحياة والموت.. يحتاج لدخول مستشفى!!.. هنا سألتهم: وما توصيف المكان الذى تعملون فيه؟..
أجابونى بابتسامة بلهاء تستنكر جهلى وعدم فهمى لما يدور حولى فى الدنيا!!.. ترفقوا بى.. قالوا لى: لا نملك إلا أن نطلب لك الإسعاف.. وعليك التوجه إلى أقرب مستشفى فى مصر الجديدة أو مدينة نصر.. قلت لهم: هل لا يوجد مستشفى لمثل تلك الحالات فى التجمع الأول أو الخامس- يقطنهما نصف مليون مواطن يشار إليهم بالثراء– أجابونى بالنفى مع استنكارهم لسؤالى.. انفعلت كأقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان.. صرخت فى المسؤول عن الإسعاف: النجدة.
للحقيقة والأمانة، استجاب مسؤول إسعاف الرحاب وأرسل سيارة على الفور.. حملنا الرجل المسكين إلى أقرب مستشفى.. اسمه مستشفى العاملين بوزارة الكهرباء.. استقبلنا الناس بترحاب لا أنكره.. كنت ضمانتهم بشخصى وما يعرفونه عنى.. تم إجراء الإسعافات الأولية.. اتخذ الطبيب المسؤول عن الطوارئ قراره إدخال الرجل العناية المركزة.. للأمانة أيضاً كان تنفيذ خطوات الإسعاف ومحاولات الإنقاذ سريعة، بما يستوجب الانحناء تقديراً.. تركنا الرجل الطيب– عم إبراهيم– أمانة بين أيدى نفر من المخلصين والموهوبين أبناء مصر المحروسة.
التفاصيل بعد ذلك لا أذكرها لسبب وحيد، أن الرجل تمت معاملته معاملة طيبة بقدر ضمانات قدمها من كان معه- العبد لله- ونشكر لله فضله أن إنساناً كان بين الحياة والموت، وجد من أنقذه، حتى هذه اللحظة. أكتب الحكاية، لأكشف سراً يفجر داخلى طاقات غضب قادرة على هدم ما يتجاوز برجى التجارة اللذين كانا فى الولايات المتحدة الأمريكية.. ففى التجمع الأول.. وعلى مسافة بضع مئات من الأمتار من موقع الحادث.. يربض مبنى فخم.. انتهى بناؤه وتشطيبه.. بل إن الحدائق التى تحيط به تختال زهوا بالنضارة مع مطلع الخريف.. حوله من كل الجوانب لافتات، مكتوب عليها «مستشفى التجمع الأول»..
وامسك أعصابك.. فهذا المبنى بحالته التى وصفتها مضى عليه عامان أو أكثر.. يصف به الناس مكان إقامتهم.. قريباً من مستشفى التجمع الأول.. بعد مستشفى التجمع الأول.. خلف مستشفى التجمع الأول.. قل فوق، تحت مستشفى التجمع الأول.. لكنه لا يوجد من المستشفى غير اسمه ولافتة ومبنى فخم تحيطه حدائق مغلق منذ أكثر من عامين.. كل من أسأله يؤكد أنه مجهز تماما ًمن الداخل لاستقبال المرضى.. تسألنى لماذا لا يعمل؟!.. أجيبك: مدد يا «سيدى الجبلى».. مدد يا «سيدى نظيف أفندى»!!.
الأثرياء فى القاهرة الجديدة دفعوا الآلاف والملايين.. يعيشون وسط شوارع شديدة الانحطاط.. تحيطهم أكوام الأتربة وجبال من بقايا الصخور.. ولا تسخر إذا قلت لك إن مسجداً فخيماً تم الانتهاء من تشييده.. يبدو كقطعة ألماظ وسط أكوام الأتربة فى التجمع الأول.. لا يدخله المصلون لمجرد أن مداخله تحيطها بقايا الأحجار والرمال من كل جانب.. كيف استطاعوا بناءه وتشطيبه؟!.. إسأل «عيلة نظيف أفندى»: لماذا لم يتم تشغيله؟.. اسأل «العيلة الكريمة».. ولا تسألها عن سر مستشفى التجمع الأول!!
صحيح أن القاهرة الجديدة فيها آلاف الأسر من الأثرياء، لكنها تضم معهم الآلاف من الفقراء الذين يعملون فى مواقع خدمية كثيرة.. لا هؤلاء ولا أولئك لهم حق فى السؤال عن سبب عدم افتتاح المستشفى.. ويجوز القول إن المرض فى منتجع الأثرياء رفاهية لا يقدر عليها، غير الأكثر ثراءً ونفوذاً وأهمية..
بل إن أحدهم يمكن أن تعاجله المنية لسبب أو لآخر.. لمجرد أن الذين يتشدقون بإنجاز المدن الجديدة فات عليهم أهمية وضرورة أن يكون فى المدينة مستشفى ومدارس ومساجد تخدم سكانها.. لن أذهب إلى الرفاهية لأقول إنها أسوأ شوارع وحدائق، تبدو كما لو كانت من القرن الماضى فى عدم الاعتناء بها..
ولا تقل لى ماذا يحدث فى البقية الباقية من الخدمات كالمياه التى تنقطع لعدة أيام.. أو الكهرباء المصابة بحالة جنون تصيب الأجهزة الكهربائية بسكتة دماغية!! أما الأمن فهو متروك لدعوات الصالحين من السكان.. ولا يبقى لنا غير الدعاء بالمدد من «سيدى الجبلى» و«سيدى نظيف أفندى» وباقى العيلة!!.. ونظرة يا ست انتخابات مجلس الشعب.. بالمناسبة.. هو فين الشعب؟!!
ملحوظة: «أتمنى ألا تصل تلك الحكاية إلى الرئيس «حسنى مبارك»، لأنه لو شهد ما أصفه لانفعل انفعالاً شديداً لا أحب أن يذهب إليه.. وللحكاية تفاصيل أخرى.