«بلد» مساحته تعادل مساحة محافظة الوادى الجديد «٣٢٠ ألف كم٢».. وعدد سكانه ٢٧ مليون نسمة، أى ٣/١ عدد سكان المحروسة.. كانوا حتى عام ١٩٨١ يعيشون فى الغابات، ويعملون فى زراعة المطاط، والموز، والأناناس، وصيد الأسماك.. وكان متوسط دخل الفرد أقل من ألف دولار سنوياً.. والصراعات الدينية «١٨ ديانة» هى الحاكم.. حتى أكرمهم الله برجل اسمه «mahadir bin mohamat »، حسب ما هو مكتوب فى السجلات الماليزية!
أو «مهاتير محمد» كما نسميه نحن.. فهو الابن الأصغر لتسعة أشقاء.. والدهم مدرس ابتدائى راتبه لا يكفى لتحقيق حلم ابنه «مهاتير» بشراء عجلة يذهب بها إلى المدرسة الثانوية.. فيعمل «مهاتير» بائع «موز» بالشارع حتى حقق حلمه، ودخل كلية الطب فى سنغافورة المجاورة.. ويصبح رئيساً لاتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة قبل تخرجه عام ٥٣.. ليعمل طبيبا فى الحكومة الإنجليزية المحتلة لبلاده حتى استقلت «ماليزيا» فى ١٩٥٧، ويفتح عيادته الخاصة كـ«جراح» ويخصص ٢/١ وقته للكشف المجانى على الفقراء.. ويفوز بعضوية مجلس الشعب عام ٦٤، ويخسر مقعده بعد ٥ سنوات، فيتفرغ لتأليف كتاب عن «مستقبل ماليزيا الاقتصادى» فى ٧٠.. ويعاد انتخابه «سيناتور» عام ٧٤.. ويتم اختياره وزيراً للتعليم فى ٧٥، ثم مساعداً لرئيس الوزراء فى ٧٨، ثم رئيساً للوزراء عام ٨١، أكرر فى ٨١، لتبدأ النهضة الشاملة التى قال عنها فى كلمته بمكتبة الإسكندرية إنه استوحاها من أفكار النهضة المصرية على يد محمد على!
فماذا فعل «الجراح»؟
أولاً: رسم خريطة لمستقبل «ماليزيا» حدد فيها الأولويات والأهداف والنتائج، التى يجب الوصول إليها خلال ١٠ سنوات.. وبعد ٢٠ سنة.. حتى ٢٠٢٠!!
ثانياً: قرر أن يكون التعليم والبحث العلمى هما الأولوية الأولى على رأس الأجندة، وبالتالى خصص أكبر قسم فى ميزانية الدولة ليضخ فى التدريب والتأهيل للحرفيين.. والتربية والتعليم.. ومحو الأمية.. وتعليم الإنجليزية.. وفى البحوث العلمية.. كما أرسل عشرات الآلاف كبعثات للدراسة فى أفضل الجامعات الأجنبية.. فلماذا «الجيش» له الأولوية وهم ليسوا فى حالة حرب أو تهديد؟ ولماذا الإسراف على القصور ودواوين الحكومة والفشخرة والتهانى والتعازى والمجاملات والهدايا.. طالما أن ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع؟
ثالثاً: أعلن للشعب بكل شفافية خطته واستراتيجيته، وأطلعهم على النظام المحاسبى، الذى يحكمه مبدأ الثواب والعقاب للوصول إلى «النهضة الشاملة»، فصدقه الناس ومشوا خلفه ليبدأوا «بقطاع الزراعة».. فغرسوا مليون شتلة «نخيل زيت» فى أول عامين لتصبح ماليزيا أولى دول العالم فى إنتاج وتصدير «زيت النخيل»!
وفى «السياحة»: قرر أن يكون المستهدف فى عشر سنوات هو ٢٠ مليار دولار بدلاً من ٩٠٠ مليون دولار عام ٨١، لتصل الآن إلى ٣٣ مليار دولار سنوياً.. وليحدث ذلك: حول المعسكرات اليابانية التى كانت موجودة من أيام الحرب العالمية الثانية إلى مناطق سياحية تشمل جميع أنواع الأنشطة الترفيهية، والمدن الرياضية، والمراكز الثقافية والفنية.. لتصبح ماليزيا «مركزاً عالمياً» للسباقات الدولية فى السيارات، والخيول، والألعاب المائية، والعلاج الطبيعى، و... و... و....
وفى «قطاع الصناعة»: حققوا فى عام ٩٦ طفرة تجاوزت ٤٦٪ عن العام السابق بفضل المنظومة الشاملة والقفزة الهائلة فى الأجهزة الكهربائية، والحاسبات الإلكترونية.
وفى النشاط المالى: فتح الباب على مصراعيه بضوابط شفافة أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية لبناء أعلى برجين توأم فى العالم ٦٥ مركزاً تجارياً فى العاصمة «كوالالمبور» وحدها.. وأنشأ البورصة التى وصل حجم تعاملها اليومى إلى ألفى مليون دولار يومياً، (فى مصر ٤٠٠ مليون).
وأنشأ أكبر جامعة إسلامية على وجه الأرض، أصبحت ضمن أهم خمسمائة جامعة فى العالم يقف أمامها شباب الخليج بالطوابير، كما أنشأ عاصمة إدارية جديدة putrajaya بجانب العاصمة التجارية «كوالالمبور» التى يقطنها الآن أقل من ٢ مليون نسمة، ولكنهم خططوا أن تستوعب ٧ ملايين عام ٢٠٢٠، ولهذا بنوا مطارين وعشرات الطرق السريعة تسهيلاً للسائحين، والمقيمين، والمستثمرين، الذين أتوا من الصين، والهند والخليج ومن كل بقاع الأرض، يبنون آلاف الفنادق بدءًا من الخمس نجوم حتى الموتيلات بعشرين دولار فى الليلة!
باختصار:
استطاع الحاج «مهاتير» من ٨١ إلى ٢٠٠٣ أن يحلق ببلده من أسفل سافلين لتتربع على قمة الدول الناهضة، التى يشار إليها بالبنان، بعد أن زاد دخل الفرد من ١٠٠ دولار سنوياً فى ٨١ عندما تسلم الحكم إلى ١٦ ألف دولار يومياً.. وأن يصل الاحتياطى النقدى من ٣ مليارات إلى ٩٨ ملياراً «فى مصر ٣٤ مليارا»، وأن يصل حجم الصادرات إلى ٢٠٠ مليار دولار، فلم يتعلل بأنه تسلم الحكم فى بلد به ١٨ ديانة، ولم يعاير شعبه بأنه عندما تسلم الكرسى فى ٨١ كان عددهم ١٤ مليوناً والآن أصبحوا ٢٨ مليوناً، ولم يتمسك بالكرسى حتى آخر نفس أو يطمع فى توريثه، ولكنه فى ٢٠٠٣ وبعد ٢١ سنة، قرر بإرادته المنفردة أن يترك الجمل بما حمل، رغم كل المناشدات، ليستريح تاركاً لمن يخلفه «خريطة» و«خطة عمل» اسمها «عشرين.. عشرين».. أى شكل ماليزيا عام ٢٠٢٠، والتى ستصبح رابع قوة اقتصادية فى آسيا بعد الصين، واليابان، والهند.
ولهذا سوف يسجل التاريخ: «أن هذا المسلم العلمانى» لم ترهبه إسرائيل التى لم يعترفوا بها حتى اليوم، كما ظل ينتقد نظام العولمة الغربى بشكله الحالى الظالم للدول النامية، ولم ينتظر معونات أمريكية أو مساعدات أوروبية، ولكنه اعتمد على الله، وعلى إرادته، وعزيمته، وصدقه، وراهن على سواعد شعبه وعقول أبنائه ليضع بلده على «الخريطة العالمية»، فيحترمه الناس، ويرفعوا له القبعة!
وهكذا تفوق الطبيب «الجراح» بمهارته، وحبه الحقيقى لبلده، واستطاع أن ينقل ماليزيا التى كانت «فأراً» إلى أن تصبح «نمراً» آسيوياً يعمل لها ألف حساب!
أما «الجراحون» عندنا، وفى معظم البلدان العربية، فهم «كحلاقى القرية» الذين يمارسون مهنة الطب زوراً وبهتاناً.. فتجدهم، إذا تدخلوا «بغبائهم» و«جهلهم» و«عنادهم»، قادرين بامتياز على تحويل «الأسد» إلى «نملة»!
ولله فى خلقه شؤون!
|