يقول البعض بخصوص التفكر فى الغيبيات و التفكر فى الذات الإلهيه أو الروح فهذه من شأنها أن تؤدى إلى الجنون فقد إختص بها الله وحده و إلا كان علمها لرسوله عليه الصلاة والسلام لكنه سبحانه وتعالى قال (الروح من أمر ربى لا يعلمها إلا هو). فإنى لا أتفق مع هذا الرأى فنحن نسيير وراء الإشارات القرآنية و النبوية حتى نكون فى أمان من أى إيحاءات شيطانية و الإيمان بالغيبيات هو أحد أركان عقيدتنا و لو كان التفكر فيها خطأ لحجبها الله عنا تماماً و ما أخبرنا بشئ منها. أما عن عدم علم الرسول (ص) بها فأنا لا أوافق على هذا الرأى أيضاً، فكون الرسول (ص) لم يكاشف الناس بالنور الكامل فهذا لا يعنى عدم معرفته به و لا تنسى أن الرسول (ص) هو الوحيد من مخلوقات الله الذى تخطى حجاب النور ليرى الآية الكبرى عند سدرة المنتهى و ما تخطى هذه المنزلة أحد إنسا أو جناً أو ملاكاً. و سدرة المنتهى هى منتهى علم المخلوقات و لو بالوحى كالملائكة. و من المعلوم لدينا من السيرة النبوية أن الرسول (ص) كان يخاطب الناس قدر عقولهم فكان الأعرابى يأتى للرسول طالباً منه معجزة كما كانت تفعل الممالك القديمة مع أنبيائها فكان رسول الله (ص) ينادى جذع النخل فيأتى ثم يأمره بإذاً الله فيرجع إلى النخل و هذا كان علم بمنطق الزرع من لدن الله عز و جل و لكنه ليس غايتنا و كان رسول الله (ص) فقط يلبى طلب الأعرابى حتى يؤمن فكان غايته صلى الله عليه و سلم أن ينقذ الله به نفساً من النار و نعلم جميعا مدى فرحته و تحمله الأذى فى سبيل ذلك، فهو حقا كان رحمة للعالمين. عذراً للإطالة فالكلام عن سيد الخلق يصعب إيقافه.
إن علمنا المحدود بالمكان و الزمان لا يعطى صورة كاملة و هذا فى عالم الشهادة الذى لم نعرف عنه الكثير حتى رغم وجودنا به طيلة آلاف الأعوام. فما بالنا بعالم (الغيب) السكون الأزلى الذى له منطقه و قوانينه هو الآخر. فهل يصح أن نطبق قوانين عالم المادة محدود الأبعاد و الإمكانات على عالم السكون اللانهائى الإمكانات؟ سبحانه و تعالى هو الذى يعلم قوانين عالمى الغيب و الشهادة. ثم بعد ذلك نحد الخالق بقوانين عالم المادة و نتوقع أن نفهم شيئا عن ذات الله؟!!! و لهذا لا يصح أن نسأل مما يتكون الله.
و لكن الإجتهاد فى ذات الله ليس مغلقاً رغم قلة معرفتنا بقوانين عالمنا المادى و شبه جهلنا التام بقوانين عالم السكون الأزلى. و هذا مصداقاً لقوله عز و جل
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ العنكبوت 69
وهى نفس السورة التى أمرنا فيها عز و جل بأن نتفقد آياته فى الكون المادى من حولنا
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ العنكبوت 20
و لاحظ أخى القارئ تقديم تفقد آيات الله فى الكون فهى باب واسع لمعرفة عظمة الخالق ثم تأتى سورة العنكبوت فى الآية الخاتمة لتكتمل الغاية فيكون الإجتهاد لمعرفة الله على علم و بصيرة و تكون الهداية هى منحة من الله لمن إجتهد. و نسأل الله أن يعطينا هذه المنزلة العظيمة إن كانت فيها خير لنا.
أما عن السؤال عن الروح بأنه أمر مغلق التفكير فيه بأمر من الله بقوله ( الروح من أمر ربى لا يعلمها إلا هو ) فالآية القرآنية فى سورة الإسراء و التى نصها
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ الإسراء(85)
فهى كانت إجابة نزل بها جبريل على رسول الله (ص) رداً على سؤال اليهود له عن الروح و لم تكن أمر بغلق الباب للتفكر فى هذا الباب. و لاحظ أخى إقتران لفظة الروح بلفظة الأمر فى عدة آيات اخرى و لكن الله يعلم أن علم الإنسان على العموم لا يوصله لإدراك معنى الآية فقال عز و جل (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ النحل(2)
﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴾ غافر(15)
﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإذاً رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ القدر (4)
و منذ خلق الإنسان و هو فى إجتهاد و جد متواصل للتقرب من خالقه و خالق الكون و نجد هذا واضح فى أقدم متون دينية عرفتها البشرية المنسوبة لهرمس المصرى و الذى يعرف فى العربية بالنبى إدريس عليه السلام و التى أخذت من معينها فلسفات عدة و تأثرت بها حضارة العالم القديم و الحديث أيضا. كما نجدها واضحة فى الفكر الدينى اليهودى و اللاهوتى المسيحى الأول و الصوفى الإسلامى الملتزم. و كما تنبأ هرمس فى هذه المتون أن الحكمة الإلهية التى خطها بيديه سيأتى يوماً و تضيع، و ستصبح ملغزة على العقول لما أصبحت عليه من مادية و قلة فكر. و هذا هو نصها:
الحكمة الخالصة هي الجهد الروحي في التأمل المستمر للوصول الي معرفة الإله الواحد آتوم.
لكن سيأتي زمان لايطلب فيه أحد بذل جهد في الحكمة بطهارة قلب ووعي.
إن اولئك الذين يحملون الضغينة في نفوسهم سوف يحاولون منع الناس من اكتشاف هبة الخلود التي لاتقدر بثمن.
فالحكمة ستصير غامضة مغلفة بصعوبة الفهم وستفسدها النظريات الوهمية، وسوف تشتبك في حيل العلوم المحيرة كالرياضة والموسيقي والهندسة.
إذ أن دارس الحكمة الخاصة هو دارس لكل العلوم لا كنظريات مهومة، بل كولاء لآتوم،إذ إن تلك العلوم تكشف عن عالم كامل النظام بقوة الأرقام، فقياس أعماق البحار، وقوة النيران، وضخامة أجرام الطبيعة تذكي الرهبة أمام إبداع الخالق وحكمته .
إن أسرار الموسيقي تشهد علي مقدرة لا حد لها للصانع المتعالى، الذي نظم- في جمال- كل تلك الأصوات المتنوعة في وحدة شاملة، مفعمة بنغم جذاب.
حب طاهر لآتوم يؤيده فكر وتوحد قلب، واتباع الخير الذي يريده، هو الحكمة التي لاتلوثها الأهواء الدنيئة أو الآراء الفارغة.
غير أني أتوقع أن يأتي في قادم الزمان متكلمة أذكياء، غايتهم خداع عقول الناس لابعادهم عن الحكمة النقية.
وفي تعاليمهم سوف يدعون أن اخلاصنا المقدس كان بلا جدوي، وتقوي القلب وعبادة آتوم التي يرفعها اليه المصريون ليستا سوي جهد ضائع.
مصر صورة للسموات ويسكن الكون كله هنا في قدس معبدها.
لكن الإله سوف يهجرها، ويعود الي السماء، ويرتحل من هذا البلد الذي كان مقرا للروحانية.
ستصبح مصر مهجورة، موحشة، محرومة من وجود الإله، يحتلها الدخلاء الذين سيتنكرون لتقاليدنا المقدسة.
إن هذا البلد الزاخر بالمعابد والأضرحة، سيضحي مليئا بالجثث والمآتم.
والنيل المقدس سوف تخضبه الدماء، وستفيض مياهه محملة بالقيح.
هل يحملك ذلك علي البكاء؟
بل سيتبع ذلك ماهو أنكي
فهذه البلاد التي علمت الروحانية لكل الكائنات الانسانية، وأحبت الإله يوما بولاء عارم فتفضل بالإقامة في أرضها، هذه البلاد ستتفوق علي الجميع فى العنف.
سيتجاوز عدد الموتي الأحياء وعدد الذين اختفوا من علي وجه الأرض، وسيعرف المصريون بلغتهم فقط، أما أعمالهم فلن تختلف عن أعمال الأجناس الآخري.
آه يامصر!
لن يبقي من دينك شئ سوي لغو فارغ، ولن يلقي تصديقا حتي من أبنائك أنت نفسك.
لن يبقي شيء يروي عن حكمتك الا علي شواهد القبور القديمة.
سيتعب الناس من الحياة، ويكفون عن رؤية الكون كشيء جدير بالعجب المقدس.
ولسوف تصبح الروحانية، التي هي أعظم بركات الله مهددة بالفناء، وعبئا ثقيلا يثيرا احتقار الغير.
و لن يكون العالم جديرا بالحب كمعجزة من خلق آتوم، ولا كشاهد عظيم علي فضله الأصيل، ولا كوسيلة للارادة الربانية التي تذكي في مشاهدها الاجلال والحمد.
ستضحي مصر أرملة.
فكل صوت مقدس سيجبر علي الصمت.
وتفضل الظلمة علي النور، ولن ترتفع عين الي السماء.
سيدمغ الصالح بالبلاهة، وسيكرم الفاسق كأنه حكيم.
وسينظر الي الأحمق كأنه شجاع، وسيعتبر الفاسد من أهل الخير.
تصبح معرفة الروح الخالدة عرضة للسخرية والانكار، ولاتسمع ولاتصدق كلمات تبجيل وثناء تتجه الي السماء.
لقد كنت الشاهد من خلال العقل الواعي علي ماخفي في السماء، وبالتأمل وصلت الي معرفة الحقيقة، وصببتها في هذه المتون.
ها أنا ذا هيرميس العظيم ثلاثا، أول انسان وصل الي جماع المعرفة، سجلت في هذه المتون أسرار الاله في رموز خفية، بحروف مصرية مقدسة، في أمشاق علي هذه الصخور، وأخفيتها لعالم المستقبل، الذي سوف يحاول الانسان فيه البحث عن حكمتنا المقدسة.