من نحن؟خلقت ذكر و هى أنثى، ولدت فى عام ما و هو فى عام آخر فى مكان ما و هو فى مكان آخر لأب و أم ضالين أو مهتدين و غيرى على عكس ذلك، الكل يأتى و يحيى و يذهب، كل مقدر و مكتوب سلفاً، فلم الثواب و فيما كان العقاب؟ هل أجابك أحد فى هذا من قبل و اقتنعت؟ كل الإجابات تقليدية نرددها دون فهم أو وعى بها. سمعنا قصة خلق آدم و عصيان الشيطان لأمر الله، و ما كان له ذلك. لماذا وجد الشيطان مع الملائكة و هو ليس منهم فى هذا التوقيت، أكان هذا الحدث مدبراً ليعصى الشيطان ربه؟ و من بعده نخلق نحن الآخرين فى أزمان و أماكن ما اخترناها بأنفسنا ثم بعد ذلك نحاسب. أنخلق هكذا و نعذب فى النار هكذا و من يدخل منا الجنة برحمة الله لا بعمله. إن القصة تبدوا غير منطقية بل إنها تبدوا كالمؤامرة! و سبحانه تعالى عن ذلك علواً كبيراً فهو الغنى عن عباده. و لكن الإعتقاد الأسلم أن فهمنا للقصة يبدوا ناقصاً و أن هناك حلقات مفقودة لابد من إيضاحها كى تكتمل الصورة. ترى ما هى تلك الحلقات؟
و تعالوا لنستمع إلى قوله تعالى بل و نحسن الإستماع
﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ البقرة 281
يأمرنا الله أن نـتقى يوما نرجع فيه إليه! و هل يرجع إلا من ذهب؟ و لماذا لم يقل اتقوا يوما تأتون فيه إلى الله؟ و لكن هل كنا عند الله من قبل حتى يخبرنا أننا سنرجع إليه ثانية؟ و الإجابة لابد أن تكون نعم. و لكن متى و أين؟ أنا لا أتذكر! فلنتأمل مرة أخرى من المخاطب فى هذه الآية إنها النفس. و قد تكررت لفظة رجوع النفس إلى الله فى موضع آخر
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ البلد 27-30
و للتأكيد على أن أنفسنا كانت عند باريها من قبل فلنتأمل قوله عز و جل
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ الأنعام 158
و هنا يذكر الله صراحة أن يوم القيامة لا ينفع النفس غير المؤمنة إيمانها، و هنا يذكر عز و جل شرطان شرط منها أن تكون هذه النفس كسبت خيراً من إيمانها فى الحياة الدنيا و هذا هو المعروف لدينا لكن الله لم يكتفى بهذا الشرط فقط بل ذكر لنا شرط آخر و هو أن تكون هذه النفس قد آمنت من قبل وجمع بين الشرطين بلفظة "أو" لتفيد تحقق أحدهما، و هذا الشرط كان مقدماً على شرط كسب الخير فى الحياة الدنيا! و لا يذكر شرطين إلا إذا كانا مختلفين. و السؤال يطرح نفسه مجدداً، أين و متى آمنت الأنفس قبل أن تكسب خيراً فى الدنيا؟
أيضاً يذكر لنا الله أمراً آخر غير مستصاغ بمقاييسنا الدنيوية، هل تصدق أنك ستتنكر لأخيك و لأمك و لأبيك و لزوجتك و لأبنائك يوم القيامة فيكون همك الأساسى هو نفسك فقط؟ فما سبب هذا التنكر للأهل و الأبناء، هل هذا سيكون من هول الموقف فقط أم أن هناك سبب أخر قد يبرر موقفنا من بعضنا البعض؟
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ عبس 33-37
ويعلل لنا الله أن السبب وراء هذا الموقف الذى قد يكون غريب على الكثير منا بل يصل إلى حد الإستغراب! و السر يكمن فى أن الأنفس عند علمها بحقيقتها ستكتشف أن الكل كان واحد قبل عالم الذرية. وما آدم إلا أول من إذاً له الله بالإنتقال من عالم الأنفس فى السكون الأزلى إلى عالم الأسباب و ما أباك أو إبنك إلا نفسين مثلك تماماً و لكن التسلسل الزمنى فى عالم الأسباب هو ما يسيطر على منطقنا فى التفكير. و لو تأملنا مناجاة نوح ربه ليشفع فى ولده، و تأملنا ماذا قال الله لنبيه نوح، قد تكون إشارة قرآنية تبرهن عما ورد فى حديثنا عن تساوى الأنفس فى عالم السكون الأزلى. قال عز وجل إنه ليس من أهلك! و لا تسأل عما ليس لك به علم.
﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾نوح 45-47
أما عما جاء على لسان بعض المفسرين أن هذا الإبن كان إبن زنا مستشهدين بقوله ﴿ إنه عمل غير صالح ﴾ فلا أجده صحيحاً على ضوء ما سبق ذكره. فهو ليس من أهله حيث لا أنساب فى حقيقة الأمر الكل كان أنفس أزلية، و قوله إنه عمل غير صالح يفيد بأن هذه النفس قد استوت على غير الإيمان بما لها من صفات أزلية. و إلا لو كان هذا سيفسر على الوجه الآخر لما قال الله عز و جل لا تسأل عما ليس لك به علم لأن الله قد أخبره بالفعل أنه ليس إبنه، بل يحذر الله نبيه أن يسأل عن هذا حتى لا يكون من الجاهلين. و هنا أدرك رسول الله نوح بفطنة و صدق الأنبياء أن الله يحدثه عن شئ غيبى يجعله من الجاهلين، و لهذا إستغفر نوح (ص) ربه عن سؤاله عما لم يخبر به ربه.
و يؤكد الله هذا الأمر بقوله تعالى عن إنقطاع الأنساب بيننا يوم القيامة، فلا أب و لا إبن الكل منذ آدم إلى آخر مولود فى عالم الذرية كان واحد.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ المؤمنون 99-101
دائما ما يخاطبنا الله فى حياتنا الدنيا يا بنى آدم أو يا أيها الناس، أما عن لحظة الموت فالمخاطب تكون النفس! فما هى النفس التى نحملها و هل هى شئ منفصل عن الجسد الذى هو من تراب، و إن كانت نفسك التى بين أضلاعك هى طبعك فمن أين جاء و كيف اختير، و إن كانت هى الذات الغير مادية، أتكون هى الروح؟ أم أن النفس و الروح كليهما غير مادى و لكنهما مختلفين؟ أنكون نحن كل هؤلاء؟ أما عن الموت أيكون بخروج الروح من الجسد أم النفس؟ سبحانك ربنا، لا علم لنا إلا ما علمتنا.