و لما إستحال معرفة الله على مخلوقاته محدوة القدرة فسبحانه شديد المحال، و ما علمت نفساً حتى كيف خلقت. بل و أصبحت مسجونة فى جسد مادى محدود القدرة فكيف لها معالجة نفسها و تهذيبها؟ نقول أن فى هدا الجسد مرآة لنفسك التى بين أضلاعك فالنفس مستقرها القلب. ألا إن فى الجسد مضغة إن صلحت صلح سائر العمل و إن فسدت فسد سائر العمل ألا و هى القلب. فكل منا إنساً كان أو جان له قلب هو مرآة لنفسه فعليه مراقبة حال قلبه لمعرفة نفسه و إن عرفها فقد عرف ربه.
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ ق 31-35
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ البقرة 8-13
و يوضح الله لنا أن رحمته ما زالت تضئ الطريق لمن أراد أن يعمل صالحاً
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ الرعد 9-11
و الله قادر و رحيم يمحو ما يشاء و يغفر
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإذاً اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا ﴾ الرعد 39-40
و عندما توفى النفس أجلها أى تكون قد كسبت من عمل ما يعكس طبيعة إختياراتها من صفات أزلية و بذلك تكون قد إختبرت كل صفاتها دون شك فما تقدم و لا تؤخر ساعة. و تكون هنا لحظة الإنتقال و الرحلة ثانية إلى عالم الغيب فمن إكتسب خيراً من عمله فى الحياة الدنيا يقودها فى الرحلة إلى السماءمع أنفس الأطهار و من إكتسب شراً بعمله لم يستطع إكمال رحلته و تظل نفسه معلقة بين السماء و الأرض فى ظلمات مع أنفس الأشرار.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ المؤمنون 99-101
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ الزمر 68-70
فالنفس الفطنة هى التى تحسن العمل و لا تغتر بلذة فيها معصية فكثرة المعاصى ما هى إلا طاقات سلبية تنتجها النفس و لهذا ما تستطيع هذه النفس التكيف و الحياة فى جنة النعيم، كما أنها ستكون حجة عليها يوم القيامة. أما النفس الخبيثة هى التى تنغمس فى المتاع المادى و تكتسب من سوء العمل ما تستلذ به فى معصية. فكل نفس محكوم عليها بالموت لتوفى أجلها بما كسبت من صفات فى أزلها
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ آل عمران 185
و كل نفس ستوفى أجلها فما هو إلا تأجيل لحكم ربها بما كسبت
﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإذاً اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ آل عمران 145
و مع إنتهاء الإختبار لكل إختيار يأتيها أمرها فما تستقدم ساعة و لا تستأخر و كان وعد ربها أمراً مفعولاً
﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ المنافقون 11
و بهذا تكون كل نفس قد رجعت لحالة الموت الأولى التى كانت فيها فى عالم الغيب، ليست قادرة على تفعيل رغباتها وهذه هى الميتة الثانية للنفس إلى يوم البعث و فى هذه المرحلة تعيش النفس السليمة راضية مستبشرة أما النفس الخبيثة تعيش فى حالة حسرة و ذلة لما فاتها.
﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ البقرة 28
و تظل النفس ميتة هكذا فى حالة ترقب و إنتظار إلى يوم البعث و الحياة الأخرى الأبدية فتكون قد أتمت ميتتين و حياتين
﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ غافر 11
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ المؤمنون 99-103
و لكن علم الله واسعاً و كلماته تفيض بالحكمة كالسيل المنهمر فإذا لم تنسط إليها جيداً تـتخطاك كلماته و تعود إلى مبتداها دون أن تـتعلم منها شيئاً.
الفصل الثالث عشر: الإستيقاظ من الغــــفلة و لحظة التذكر
إن النفس إذا فطنت و تحررت من الملذات المادية المحرمة ترقت و إستطاعة من العلم و الإيمان ما يزكيها عند الله، و لا تحسب أن النفس تتذكر عالمها الغيبى الأول فى السكون الأزلى و إختياراتها بطريقتنا البشرية المادية من إسترجاع ذكرياتك فمحال أن تتذكر ما هو غيبى و غير مادى بوسائطك المادية المحدودة الحيز و الإمكانات. و لكنك بعمل الطاعات تكتسب نفسك من الطاقات ما يساعدها و يؤهلها لعقل هذا العالم الغيبى فإن كان لك خمس حواس فالعقل هو الحاسة السادسة و هو أصدقها فلا تعطله. و إن لم تكن ممن إصطفاهم الله من النبيين و الرسل و الصديقين و الأولياء الذين أنار الله أفئدتهم و بصائرهم بالرحمات و بنور التقوى، فيكفى إتباع هؤلاء الخلصاء على منهج و سنة فتسلم بنفسك من الضرر و تحقق المنفعة لك و لمن حولك.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ الحشر 18-19
و على العموم نقول أن الأنفس الآن محجوبة عن علم الأزل بستر الزمان و المكان داخل الجسد المنفعل لها و المتفاعل مع محيطها المادى بقدراته المحدودة و المحجوبة. و لهذا السبب المادى لا تذكر نفسا ما قدمت فى عالم السكون الأزلى. فترى هل يأتى يوم لكل نفس ترى فيه حقيقتها؟ و الإجابة نعم و بكل تأكيد و بالدليل القرآنى المبين. لأن كل نفس ذائقة الموت و أوقات سكرات الموت هى لحظة رؤية الحقيقة، وعلى هذا يكون لكل نفس يوم ترى فية الحقيقة. و لذلك فتلك الأوقات من سكرات الموت هى من أحنك اللحظات التى تمر بها الأنفس لحظة التحرر من الماديات المحدودة الإمكانات و العودة للطبيعة الغير محدودة بمادة و بمنطق المادة الضيق. فرهبة الإنتقال من عالم إلى عالم ليست بالهينة فى ذاتها ناهيك عن إكتشاف النفس بطبيعة خبثها إن كانت كذلك فتجد من تبرق عيناه حتى تظن أنها تجحظان و من يعض على شفتيه حتى يقطعها ففى تلك يكون الإستيقاظ من الغفلة على حقيقة مرة، نسأل الله أن يهونها على المؤمنين من عبادة و يثبتهم على الإيمان.
﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ ق 19-22
و كما أن الملائكة المكلفة باستخراج النفس و سياقتها تمثل رهبة أخرى فالإستقبال الذى تستقبل به النفس الخبيثة يكون قاسياً حقاً. فتود هذه النفس لو تعود إلى الجسد لتعاود تفعيله و لكنه ما ينفعل لمشيئتها اليوم فقد غادرته الروح الإلهية التى كانت تأمر الجسد بالإنفعال لمشيئة النفس. و تحاول الهروب هنا و هناك و لكنها تستسلم لملائكة غلاظ ينتزعوها من الجسد إنتزاعاً، إنه مشهد مخيف ستمر به كل نفس خبيثة. أما النفس الحميدة يكون الحال أخف كثيراً فهى ترهب حالة الإنتقال و لكن ما يشجعها ظهور الملائكة المبشرة لها بالسرور و الفرحة عند ربها فيكون خروجها سهلا.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ الأنعام 93