و لما كان حكم الله على بعض الأنفس بعدم أحقيتها فى النعيم فكانت المجادلة بغير علم و لا حق بعد شهادتها لله بالوحدانية الخالصة فكانت الحياة الدنيا لتفعيل صفات النفس و لو كانت هذه الأنفس على حق لأكتسبت من صالح الأعمال طاقة بما يوافق طاقة النعيم. و لأنها ليست كذلك فهى لا تستطيع تفعيل طاقاتها من السكون إلى الحركة كما كل الأنفس الأخرى صالحها و طالحها و لأنها غير عليمة بعالم الحركة كما الأنفس الأخرى فكان الله عالم الغيب و الشهادة أرحم الراحمين عوناً لها لكسب صالح الأعمال فأرسل السنن و المنهج على يد المرسلين و بذلك تستطيع الأنفس توفيق طاقاتها لملائمة العيش فى طاقة النعيم، و ما على كل نفس إلا إتباع الرسل و الأنبياء و الصديقين على نفس ما سلكوه لتصل لبر الأمان. و لهذا كانت خشية الرحمن بالغيب فى الحياة الدنيا من لطف الله بنا فلا تفوت تلك الفرصة العظيمة.
﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ الإنفطار 1-8
﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ التكوير 12-20
و كما شرحنا من قبل أن الأنفس كانت فى عالم السكون الأزلى و لهذا عبر الله بلفظ صريح يدل على حياة قبلية ألا و هو رجوع الأنفس لله و لا يرجع إلا من ذهب و لذلك لم يستخدم لفظ يأتى بدلا من يرجع.
﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ البقرة 281
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ العنكبوت 57
فمنها من تعود إلى الله راضية مرضية هى فى جنة و رياحين
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ البلد 27-30
و منها من تظل معلقة تعلم خبثها و لا تعلم مصيرها إلى يوم الفصل، تود لو أن بينها و بين ما عملت أمد أو تود لو لم تخلق
﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ آل عمران 30
أما الآن دعونا نصور كيف يكون الحال فى حضرة مشهد مهيب آخر كما صور القرآن الكريم، إنه يوم الفصل النهائى. يوم محكمة الثواب و العقاب يوم تنصب الموازين و تحار فى العقول و القلوب. و من الملاحظ هنا أن الله عز و جل فى هذا اليوم قد كرر جملة توفى كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون عدة مرات باللفظ ذاته أو بمعناه و هذا يدل على أهمية الموقف و الحدث، و كأن الله ينفى عن ذاته الظلم و يرد على شئ قد جادلت الأنفس عن نفسها من قبل فى يوم هو الأشبة بالحالى فى يوم شهدت فيه الأنفس لله بالوحدانية و لكنها لم تصدق على شهادتها و جادلت عليم السماوات و الأرض بما لا طاقة لها به. و فى هذا الموقف أيضاً ستحاول كل نفس المجادلة عن نفسها مرة أخرى كما فى المشهد الأول، و لكن هذه المرة سيكون الرد بأنه لا يحق لنفس أن تدعى بأنها قد ظلمت فهى ستجزى بما كسبت من عمل. فالمجادلة فى عالم السكون الأبدى بإدعاء الأنفس أنها أنفس صالحة للحياة فى النعيم، لم تعد تجدى تلك المرة. فحجة النفس فى عالم الغيب قد بطلت بما كسبت فى عالم الشهادة. و حجة النفس فى عالم الشهادة بالنسيان قد بطلت بإرسال الله الرسل. و هكذا لن يكون للنفس حجة على الله لا فى عالم الغيب و لا فى عالم الشهادة.
﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ المدثر37-38
﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ النحل (111)
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ آل عمران161
﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ البقرة 281
﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ الجاثية 22
﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ آل عمران 25
﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ يس 53-54
و ما أشبه الليلة بالبارحة و يعبر الله عز و جل عن عمر عالم الشهادة يمر سريعاً فما هو إلا سويعات قليلة فى عمر عالم الغيب.
﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ المؤمنون 112-116
﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ إبراهيم 52
﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ غافر 17
و بعدما مر هذا المشهد المهيب، و تجد النفس أنها قد حوصرت بعلم الله و بصيرتة فهو سبحانه عالم الغيب و عالم الشهادة فما إستطاعت مع الله مجادلة.
﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ الإسراء 13-14
و لو لخصنا المراحل التى مرت بها النفس سنجد أنها فى عالم السكون الأزلى كانت فى حكم الأموات فلا تستطيع نفس تفعيل مشيئتها حركياً. ثم فى مستقرها المادى المنفعل لإرادة النفس فى عالم الحركة تحركه كيف تشاء فى فى حكم الأحياء. ثم توفى النفس أجلها لما تنهى فترة الإختبار و تغادر الجسد و تعود لطبيعتها الأولى فى عالم السكون فتكون الميتة الثانية و تظل هكذا حتى يوم القيامة. حتى تبعث الأجساد من جديد فتعود كل نفس إلى مستقرها من جديد فتكون الحياة الثانية الأبدية فى النعيم أو الجحيم. و بذلك تكون النفس قد أتمت ميتتين و حياتين. فتجد النفس أن الحجة قائمة عليها فى كلا العالمين عالم الغيب و عالم الشهادة و ما من سبيل لها الآن غير الإعتراف بذنوبها.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ غافر 10-11
فسبحانه خالق الموت و خالق الحياة فما نظرت نفس فى ميتتيها أو حياتيها إلا و ذلت لقدرة الله الواحد القهار. رفعت الأقلام و جفت الصحف
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ الملك 1-4
و لأن الموت هو الأصل فتجده مقدماً على خلق الحياة، و يأتى الحدث الأخير قبل أن تساق كل نفس إلى حياتها الأبدية و تعترف الأنفس بذنوبها و قلة حيلتها و علمها. فما من نفس كاملة فيغفر الله لمن شاء من عباده الذين خشوه بالغيب فى الحياة الدنيا و إتبعوا هداة الخيرمن رسله فحقاً ما من نفس دخلت الجنة إلا و كان ذلك برحمة من الله.
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ الأعراف 37
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ الأنعام 130
و تعترف الأنفس الخبيثة بظلمها لنفسها بمجادلة خالقها بغير علم فما هى عقلت إختياراتها الأزلية فى تسوية الأنفس فى عالم الغيب و لا هى إتبعت رسل الله و خشيته بالغيب فحق عليها العذاب.
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾الملك 10-12
و المشاهد التى يرويها القرآن الكريم يوم القيامة كنا نجدها غريبة علينا فكيف يكون الأولون و الآخرون على نفس الميزان و كيف يأتى المرء يوم القيامة لا يعنيه غير نفسه فلا يهتم لأمر أمه أو أبيه و لا زوجته و لا بنيه. و لكنا الآن قد نتفهم هذا الأمر فالأنفس كلها واحدفى عالم السكون الأزلى لا أسبقية لنفس على الأخرى فالزمان و المكان و الأنساب كانت فى عالم السببية فقط. فما آدم إلى أول نفس أختيرت لتستقر فى بدن لتختبر صفاتها الأزلية. فآدم عليه السلام هو أبو البشر فى عالم الذرية أما فى عالم السكون الأزلى كان إحدى الأنفس المخلوقة لله كما كل الأنفس. و هذا ما يكشفه لنا القرآن حين يذكر صراحة سقوط الأنساب فما عاد لها معنى
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ المؤمنون 101