سبحان الله العليم العزيز. عالم الغيب و الشهادة، عالم ما كان و ما يكون و ما سيكون سبحانه. الأرض فى قبضته و السماء مطويات بيمينه فهو الملك القهار. و بذلك يكون الستار قد أسدل على مرحلة صراع الخير مع الشر و تكون حياة هادئة مستقرة أبدية ينعم فيها المؤمن و يأمن على نفسه جزاء ما صبر. فكل العقول الفاسدة التى طالما أفسدت و استهزءت بالمؤمنين هى الآن محشورة فى نار الجحيم محاطين بأسوارها لا يغاثون فيها، و لك أن تتخيل كيف تكون الحياة بين أهل النار فلا تنظر فقط لعذاب النار بل أنظر لرفاق جهنم جناً و إنساً من السفاحين و قطاع الطرق و ما شاكل، كيف الحال و أنت بين هؤلاء فكم ستلقى من شرهم، بالتأكيد ستكون حياة مهينة.
و اليوم وعد الله يتحقق فيجزى الصالحين بما صبروا و يعاقب المجرمين بما عملوا فلا يسمح الله للشر أن يتواجد مع الخير بعد الآن.
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ السجدة 12-15
نستخلص من هذا... أنه فى عالم السكون الأزلى قد كان لنا و جود كأنفس مجردة، إختارت كل نفس من الصفات ما شاءت بمقدار ما أرادت حتى إكتفت و إستوت لما لها من طاقة وسعت. فمنها من اعتدل و منها من اختل و كل بمقدار، فغلب فى بعضها القوة و الجبروت و الحقد و الغل و التكبر فكان مجموعها شراً و منها من غلب فيها الرحمة و العلم و الحكمة فكان مجموعها خيراً و منها ما بين هذا و ذاك كل بمقدار. مع إدراكنا لكون هذا الإختيار قد تم فى عالم السكون أى لا يخضع لمنطق السببية الذى يمنطق لنا الأحداث فى عالمنا الحركى بتسلسل زمنى للأحداث.و يمكن أن نتخيل هذا على شاكلة الواقع الإفتراضى فكل نفس قد فعلت ما اختارت من تشكيلة للصفات عقلياً حتى استوعبت قدرتها و استكفت و قنعت. و هنا جاءت مرحلة الشهادة لله بالواحدانية الخالصة و فيه شهدت الأنفس لعظمة الله الذات الكاملة. و بعلم الله لما اختارت الأنفس من صفات أزلية تقرر مصير كل منها. فكان منها من يستحق النعيم و منها من يستحق الجحيم، و لا تنتفع نفساً من النعيم إذا ما إستحقته فلا تستطيع الإستمتاع فيها و لا التكيف مع طاقاتها فقد حرمت على نفسها القدرة معها بما غلب فى إختاراتها من صفات نار الحقد و الغل و الكبر و الأنانية، كما لا تعيش نفس فى الجحيم إلا من كانت على شاكلته. و هنا كانت اللحظة الفاصلة فعلمت كل نفس مصيرها، لكنها لم تصدق ما رأت. و ادعت كل نفس أن علمها بما إختارت يمكن لها من الحياة فى النعيم و رأت أحقيتها فيه. فما إستطاع علمها أن يدرك علم الله و ما إستطاع إستيعابها أن يحيط بمعرفة الله فى عالم السكون. و هنا كانت الضرورة لعالم الحركة المادى كى تبلى فيه كل نفس بما كسبت سلفاً وتصدق بما اكتبست خلفاً. فخلق الله الكون ثم سخر ما فيه لتلك الأنفس بل و وهب لها أداة من نفس مادة الكون لتكون وسيطها تتعرف فيه على الكون الجديد و تـتفاعل معه من خلالها. و لتكن الأجساد مستقرات مؤقتة منفعلة لإرادة الأنفس معبرة و مجيبة لمشيئتها بأمر الله و روح منه و كلمته. فلأنفس أجساد من نار و هؤلاء هم الجن و لأنفس أخرى أجساد من طين و هؤلاء هم الإنس، و كل جاء على شاكلته.و ما تأتى كل نفس الآن من عمل ما هو إلا انعكاس طبيعى و ضرورى لما إختارت من صفات سلفاً لتصدق علم الله الأزلى. فما من حركة تشاءها النفس فى الدنيا تفعلها و إلا كانت حركتها فى علم الله مقدرة عقلاً. ولكن الآن تكتسب الأنفس من خلال أجسادها خير أو سوء العمل حسبما كسبت من صفات سلفاً مسجلا بالصوت و الصورة. و ما تأتى نفسا لعالمنا المادى لأب و أم فى زمن و مكان و إلا كان مناسباً و مفصلا لتختبر فيه كل إختيارات النفس من صفات بشكل جلى. و الأنفس الآن محجوبة عن علم الأزل بستر الزمان و المكان داخل الجسد المنفعل لها و المتفاعل مع محيطها المادى بقدراته المحدودة و المحجوبة. و لهذا السبب المادى لا تذكر نفسا ما قدمت فى عالم السكون الأزلى، و ما نفس توابة إلا و تحن لعالم مبتداها و ما من نفس أمارة إلا و تشتاق لفناها. و عند نومنا تغادر الأنفس الأجساد مؤقتاً لعالمها فمنها من مصرح له بالعودة إلى الجسد لتخبره من أمر ربها ما رأت فتكون الرؤيا فى إشارات و رموز بالتلميح و التصريح كل على حسب نقاءه النفسى و منها من لا يصرح له بالعودة فتكون النفس قد وفت أجلها. فإذا توفيت النفس تكون قد وفت أجلها أى إختبرت كل صفاتها التى إختارتها فحق عليها العودة فما أخرتها، و لا داعى لبقائها وقت أطول فلا جديد نفس الإختيارات و نفس الصفات و نفس الأفعال. و حتى لا تكون للنفس حجة على الله لا فى عالم الغيب و لا فى عالم الشهادة. فحجة النفس فى عالم الغيب قد بطلت بما كسبت فى عالم الشهادة. و حجة النفس فى عالم الشهادة بالنسيان قد بطلت بإرسال الله الرسل و الرسالات لبنى الجن و البشر، و لا حجة بإدعاء تدخل المكان و الزمان و البيئة فما كان هذا كله إلا تفصيلا لتفعل النفس إختياراتها و كم نفسا مؤمنة وضعت فى نفس الظروف و أسوأ و لكنها صبرت. فسبحان من له المشيئة و الإرادة العليا. و ما تشاءون إلا أن يكون الله قد شاء. و بهذا تكون كل نفس قد أتمت حياتين و وميتتين. و لربما يكون الشهيد الذى ضحى بنفسه فى سبيل الله و نفسه لم توفى أجلها-فلم تختبر كل الصفات بعد- أى تجرد لله قمة التجرد فقد ترك لله الحكم برحمته و ما أدراك ما رحمته. أما من قتل نفسه بغير حق فهذا أيضاً لم توفى نفسه أجلها و لكن دفع نفسه له لقتلها ما هو إلا بسبب يأسها بعلمها من رحمة ربها فحق عليها الطرد منها، فلا يحق اليأس من رحمة الله. فكل حسب نيته، و النية محلها القلب، و القلب مرآة النفس. فهذه النفس القاتلة لنفسها لم ترد لتوفى أجلها هروبا من علم ربها و قدره، و هذا ما نراه فى عالمنا المادى و نسميه اكتئاب و يأس و ما شاكل من أمراض فى تسميات الطب النفسى. و لهذا جاءت العبادات لتنقى الجسد من كل ما يصيبه من تلفيات نفسية حتى لا تنعكس عليه مادياً، فكانت التكاليف فى عبادته طرق رحمة لعباده. و عندما توفى النفس أجلها باختبارات الإختيارات و يصبح تركها للجسد من الضروريات يتم ذلك على مستويين تغادر روح الله و كلمته الجسد أولاً فلا ينفعل الجسد لمشيئة النفس فما سخر الجسد للنفس إلا بأمر الله بنفخ الروح فيه. و هنا تكتشف النفس حالة جديدة عليها فما عادت النفس فعالة و يتلاشى عالمها المادى من الإدراك و تنجلى حقيقة عالم غيبى فترى ملائكة الرحمن المكلفة باستقبالها إما مبشرة لها بالنعيم الذى بشرها به رب العزة من قبل فتخرج النفس مستبشرة لترجع من حيث أتت فى زمرة الأنفس الطاهرة عند ربها، وإما أن تستقبلها ملائكة غلاظ شداد منذرة بسوء العذاب بما فعلوا و الذى قضى به حكم ربها فى الأزل. و تود النفس أن يرد إليها الجسد ثانية حتى تعمل خيراً و لكن وعد الله حق فلا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها فهو خبرها من قبل عن سوء ما اكتسبت من صفات غالب فيها الشر فحق عليها العذاب بعدما كسبت سوء العمل فعليا فلا مبدل لحكم الله فلو رد إليها الجسد ثانية لعاودت نفس الأعمال. و تكتشف النفس أنه لا جدال و أن هؤلاء الملائكة هم جند الجبار المكلفة بإخراجها جبراً و قهراً فتبدأ محاولاتها اليائسة فى الهرب داخل الجسد الذى كانت تظنه مملكتها فتنتزع منه إنتزاعاً وهذا ما يسمى بسكرات الموت. و تساق هذه النفس البائسة لتنكشف لها حقيقتها و ما كسبت و قدر لها فى الأزل. و تظل معلقة مطرودة من رحمة الله منتظرة إلى يوم القيامة فى عذاب نفسى أليم فعالم المادة كان هو وسيلة استمتاع دنيوى هى مذلولة له و لكنه قد استحال عليها الآن و لا حتى لتعمل به صالحاً. و ها هى ترى الجسد الذى كانت تظنه كان ملكا لها و هو يواريه الثرى و فى هذا العذاب تظل إلى يوم الفصل.
و النفس
جعل لها أجسادها لتحملها أمانة
وبنفخ الروح فيهادبت حياة فأصبحت فعالة
بأمر ربها ومشيئة نفس توابة أو لوامة أو أمارة
فمستقر لها من نارها أو من صلصالا
فأيان القيامة