قال لي حماري وقد رآني اتهيا للسفر ذلك الصيف الي راس البر: اتذهب وحدك؟
فخجلت منهودعوته لن الوفاء يابي ان أتركه يصلي حر القاهرة وأمضي انا بدونه الي المصايف... ولقد نزل مثلي ضيفا معززا مكرما علي (عشة) أحد الأصدقاء وافرد له مكانا بجواري‘ وأصبح ينعم بهواء البحر مثلنا... ويذهب معنا كل صباح الي خيمتنا التي نصبت علي الشاطيء‘ وينظر كما ننظر الي أفواج المصيفين والمصيفات تغدو وتروح بالوان ثيابها الزاهية المختلفة كأنها معروضات الفترينات قد فيها الات تسيرها امام اعيننا علي الرمال... وكان يحلو لي ان أغرق صامتا في مقعد بحري طويل مريح وكنت اوصيت حماري بالسكوت؟ فنحنهنا للراحة لا للكلام.. وقد ازعن لرجائي فلم ينبس بحرف...الي ان جاء ذات يوم الي البلاج رجل من معارفنا. له جسم قد ترهل وكرش قد برزكانه "فنطاس"غاز وهو يرتدي الشورت مع قميص قصير الأكمام فقلت له :
يالك من رشيق!..يالها من رشاقة !
وهنا لم يتمالك الحمار وهمس قائلا لي :
-أحقا تراه كذلك؟ .
فقلت بصوت مرتفع سمعه الرجل مغتبطا:طبعا اراه كذلك... ولماذا لا أراه كذلك؟ !..-
فهمس الحمار لي وهو يتامل قوام الصديق وقده من رأسه الي قدمه :
-كيف لا أري انا ماتراه أنت؟ !..
فقلت له مغيظا:- لأنك أنت حمار .
-فأجابني هامسا:ولماذا لا تقول لأنك أنت منافق؟ !..
وكان الصديق قد ابتعد ولحق بصديقه وقد اطمأن الي حسن مظهره وسارا معا الي علي الشاطىء بعد ان يئسا من ذهابي معهما... فأنا لا احب المشى.. وانفردت بحمارى اصيح فيه :
- أنا منافق؟ !..
- مهلا مهلا ...أنا لم اقصد اهانتك...- إفهم أيها الحمار ان هذا ليس نفاق ولكنها مجاملة .
-مفهوم ... إنها مجاملة.. والمجامله هي النفاق الصغير... هي كالجحش بالنسبة للحمار... ومع ذلك فأنا لا أستهجن النفاق علي الإطلاق.. إني تاملت نفسي ذات يوم وتاملتك وقلت: ما الفرق بيننا معشر الحمير وبينكم معشر الآدميين؟!..نحن ناكل الفول وأنتم تأكلون الفول.. وإذا كنا نحبه ممزوجا بالتبن او النخالة وأنتم تحبونه بالزيت أو الزبدة ... فتلك مسألة مزاج.. ولا يجب أن نسميه فرقا جوهريا... إنما الفرق الأساسي حقا بيننا وبينكم: هو انكم تعرفون "النفاق" ونحن لا نعرفه... وقد عللت نفسي ومنيتها بحلم جميل.. هو ان تتاح لي الفرصةأن أرجوك يوما وأتوسل اليك ان تعلمني النفاق .
-عجبا!.. من علمك هذا الأسلوب الهازىء؟ !..
-- اني لست أهزأ.. اني أقول الجد.. تلك عقيدتي: لو امكنني تعلم النفاق وإدخاله في فصيلة الحميرلانقلبنا مخلوقات مثلكم.. إني مؤمن كل الإيمان بهذا المبدأ... وإني أعمل سرا علي تنفيذه منذ زمن... فلا تقف في وجه مطامعي واماني... خذ مني كل شىء واعطني النفاق !.
-ماذا جرى لك؟.. هل جننت؟.. هل أثر في رأسك هواء البحر النقي وطعام مضيفنا الشهي؟ !.
-راسي بخير.. ولقد سألتك شيئا سوف يحدث انقلابا في تاريخ بني جنسى ولكنك تبخل به علينا وتضن فلن ألح او أثقل عليك بعد الآن في الطلب !.
-أمرك غريب ايها الحمار ؟.. ابخل عليك بماذا؟..أهو شىء عزيز نفيس أستكثره علي مثلك؟.. هذه أول مره أسمع فيها أن للنفاق قيمة يحرص عليها الإنسان !
-أما أنا فقد سمعت أن النفاق له قيمة كبري في الأسواق العالمية وأن أجود أنواعه يوجد في مصركما يوجد فيها أجود أنواع القطن .
-يظهر إنك استقيت معلوماتك من مصادر خبيرة .
-لقد قيل لي : غن النفاق الطويل التيلة ..
- ماذا تقول؟ ..
-نعم ... انه كالقطن ... ألا تري هذا...ولعل السبب في تفوقه وتميزه بطول تيلته انه يمتد الي الطرفين: الفرد والمجتمع، فمثلا من الجائز أن يعتنق الفرد رأيا مخالفا للجماعه، فتنهض ضده الجماعه فيقبع في داره صامتا... وهذا ما يحدث في كل بلد آخر ...أما هنا فيحدث غير ذلك... فلقد اخبروني أن أفرادا قاموا ينادون بأفكار حرة فاتهمهم الناس بالإلحاد، فلم يكتفو بالصمت،بل قاموا في اليوم التالي يحملون المسابح الكهرمان ويرتدون العمائم الخضر... وأن اخرين عرفهم المجتمع من أهل الخمر والسكر فلم يكتفوا بالتوبة الصامته، بل راحوا يتزعمون حركات الحض علي الورع، ونساء يرتكبن في السر الفجور، وينادين في العلن بالفضيلة... وسياسين قد خلق الله لكل منهم وجها واحدا، فصنعوا هم لانفسهم وجوها عدة يستقبلون بها كل حكومةتقوم،أو كل أزمة وزارية تطرأ... وأسر وعائلات توزع فيما بين أعضائها المبادىء والاحزاب، كما يوزع الله بين عباده القسم والأرزاق. ومرؤسين يداهنون الرؤساء علي حساب الدولة. ورؤساء يرائون الشعب علي حساب المصلحة، وسيدات يردن العبث واللهو ويقلن للناس انه البر والخير ... واهل دين يملئون الصحف ضجيجا حول الأخلاق، ويدقون طبولا ضد الرذيلة، وما يقصدون في سريرتهم غير التظاهر والاعلان... ورجال تقوي يأمرون الناس بالعفة، ويستثنون أنفسهم وذزيهم .
هذا بعض ما يتعلق بالطرف الأول وهو الفرد... أما الطرف الثاني وهو المجتمع فله نفاقه أيضا :
فقد بلغني في ذلك أنه ما من مجتمع في غير مصر يستقبل المجرم الخارج من السجن بالموسيقي والمزمار كما يستقبل الحاج القادم من الحجاز!... وهذا المجتمع يشمئز من اللص الآثم، والشرير الفاجر، ولكن لو ابتسم الحظ لواحد من هؤلاء فنال سلطة، أو أصاب ثروة، فسرعان ما يبتسم له المجتمع أيضا، ويستقبله استقبال الأمجاد الأبطال، بل ان المجتمع ليعرف التاريخ المخجل لهذا المليونير، والماضي المزرى لذلك السياسى،فلا يمنعه ذلك من حملهما علي الاعناق .
هكذا يري المجتمع الفرد ويداهن الفرد المجتمع... ولا يدري أحد أيهما مصدر النفاق.. لذلك قيل:إن النفاق يصل أحدهما بالآخر، فلا نعرف أي الطرفين مصدر الآخر .. وكل الذي نعرفه أن النفاق ممتد بينهما يربطهما بخيوطه المتينة.... وهذا سر وصفه بالتيلة الطويلة.. فما قولك في هذا؟ وهل تراني ألممت بالموضوع؟
-إني أراك بحرا فياضا، وأدهش كيف تسألني أن أعلمك النفاق وأنت واسع الإطلاع فيه علي هذا النحو؟ !
-لا موجب للدهشة فأنت تعرف أن العلم النظرى شىء ووسائل التنفيذ شىء آخر... فكل بلد يدرس تاريخ الثورة الفرنسية، ولكن ليس من السهل أن تحدث ثورة فرنسية في أي بلد؟!... وأنا كذلك درست تاريخ نفاقكم، ولكن ليس من اليسير أن أحدث مثله في مجتمع بني جنسى !..
-لست أري في الأمر صعوبة... انه في غاية البساطة... أنا مثلا صاحبك الذي تهابه وتخافه. ولك عنده مصالح ومآرب.. انظر الي وجهي الا تراه جميل الصورة ؟ ..
- أبدا
-لا تنظر بعين رأسك انظر بعين مصلحتك !..
-لست أعرف لي سوي العين التى في رأسى .
- هذه العين افقأها إذا كنت تريد أن تتعلم النفاق !...
- أفقأ عيني وأصير أعمى؟ !..
-هذا هو الشرط .
- وبماذا أرى الأشياء؟ ..
- بعينك الأخري عين مآربك
-إذن لو أردت إدخال النفاق في مجتمع بني جنسى،ينبغى لى أن آمر جميع الحمير أن تفقأ عيونها التي في رؤسها؟ ..
- في الحال .
-وأن تحول مجتمعها الي مجتمع من العميان؟ !
-بالضبط .
-وهل تظن دولة الحمير تقبل ذلك؟ ...
- ولم لا؟ .. إذا كنا نحن قبلناه ..
- اسمح لي أن أقول لك.. ...
- صه .. أعرف ما تقول ولا داعى للإهانه !..
وهنا كان الصديقين قد أقبلا عائدين، فأومأت الي حمارى بالصمت.وغمزت له بعين رأسىوأنا أقول مشيرا الي صاحبنا المترهل منشدا:أهلا وسهلا بالرشاقة كلها ( بالشورت والأكمام فوق الكرش)..............
(1945)