دوائر النمل
بقلم علي عبيد
صحيفة البيان الإماراتية
في يوم الاثنين, 16 مارس 2009
هذه الحكاية منقولة بتصرف عن البرتغالية، شخصياتها وأحداثها كلها من نسج الخيال، وأي تشابه بينها وبين بعض البشر أو ما يحدث داخل بعض المؤسسات والدوائر ليس إلا من باب الصدفة البحتة.
كل صباح، كانت (النملة) الصغيرة تصل إلى مقر عملها مبكرا لتبدأ العمل بهمة ونشاط دون تلكؤ أو إضاعة للوقت، وكانت سعيدة جدا لأنها تقوم بواجباتها على أكمل وجه من تلقاء نفسها ودون ضغوط من أحد، يدفعها إلى ذلك حبها للعمل أولا، ثم للمكان الذي تعمل به وتشعر فيه بالراحة والألفة .
كان رئيسها (الأسد) مبهورا وهو يراها تعمل بكل هذا النشاط والحيوية دون إشراف أو مراقبة من أحد، لكنه قال بعد أن فكر طويلا: إذا كانت هذه النملة تستطيع أن تعمل بكل هذه الحيوية، وأن تنتج بكل هذا الزخم دون إشراف أو مراقبة، فمن المؤكد أن إنتاجها سيتضاعف كثيرا فيما لو كان هناك من يراقبها، لذلك قرر أن يعين لها مشرفا، ووقع اختياره على (صرصور) ذي خبرة واسعة وشهرة كبيرة في كتابة التقارير الممتازة، وقد كان له ما أراد ووافق (الصرصور) على القيام بهذه المهمة بعد أن أغراه (الأسد) وقدم له راتبا مجزيا .
تسلم (الصرصور) مهام عمله وكان أول قرار يتخذه هو وضع نظام صارم للحضور والانصراف، وقد احتاج لتطبيق هذا النظام إلى جهاز حديث للبصمة فطلب شراءه، ثم شعر بحاجته إلى سكرتير يساعده في ضبط المواعيد وكتابة التقارير فعين (عنكبوتا) كي يقوم بتنظيم الأرشيف ومراقبة المكالمات الهاتفية، وأشياء أخرى هي من طبيعة عمل السكرتارية المعروفة .
كان (الأسد) سعيدا بالتقارير التي أخذ يرفعها له (الصرصور) عن سير العمل، فطلب منه أن يُعِدَّ له رسوما توضيحية تبين معدلات الإنتاج، وتحلل أوضاع السوق واتجاهاته لاستخدامها في اجتماعات مجلس الإدارة خلال العروض التي عادة ما يقدمها لأعضاء المجلس موثقة بالأرقام والرسوم البيانية والإحصائية، الأمر الذي اضطر (الصرصور) إلى شراء جهاز حاسوب جديد وبرنامج «بور بوينت» وطابعة ضوئية «ليزر» واستحداث قسم خاص لتقنية المعلومات «آي تي» وتعيين «ذبابة» معروفة بإمكاناتها التقنية العالية للإشراف عليه .
لم تستسغ (النملة) هذه الأعمال الورقية الزائدة عن الحد، وكرهت الاجتماعات التي كان يعقدها (الصرصور) لهم وتستهلك أغلب الوقت وتعطلها عن العمل، أما (الأسد) فقد كان سعيدا بما يجري، لذلك رأى أنه قد حان الوقت لتعيين مدير للإدارة بعد أن تشعب العمل فيها وأصبح بحاجة إلى من يضبط إيقاعه فوقع اختياره على (دبور) يحمل شهادات عليا من أعرق الجامعات الغربية في الإدارة الحديثة .
وما أن تسلم (الدبور) مهام عمله حتى أمر بشراء سجادة تليق بالمكتب الفخم الذي سيدير العمل منه، كما طلب كرسيا ذا مواصفات خاصة تناسب ساعات العمل الطويلة التي سيقضيها في المكتب، وكان طبيعيا أن يحتاج أيضا إلى جهاز حاسوب، وإلى مساعد اختاره بعناية كي يعينَه على القيام بأعباء الإدارة الجديدة، وأوكل إليه مهمات عديدة؛
من بينها وضع ميزانية للخطة الإستراتيجية المتكاملة التي بدأ العمل عليها فور توليه مهام منصبه الجديد، وهكذا تحول مقر العمل الذي كانت (النملة) تشعر بالسعادة والألفة فيه إلى مكان كئيب، واختفت البسمة من على وجوه العاملين الذين كانوا يتبعون شتى الطرق لإرضاء رؤسائهم، وأصبح القلق وسرعة الانفعال عاملا مشتركا بينهم .
لاحظ (الأسد) أنّ إنتاج الإدارة قد انخفض كثيرا، وأن التكاليف قد زادت بنسبة لا تتوافق مع كمية الإنتاج التي تراجعت بشكل ملفت، فقرر أن يجري دراسة على بيئة العمل ليعرف موضع الخلل، ولأن دراسة من هذا النوع تحتاج إلى مختص ذي خبرة طويلة فقد قرر أن يسند هذه المهمة إلى (بومة) ذات مكانة مرموقة وشهرة واسعة في هذا المجال، فأصدر قرارا بتعيينها "مستشارة" للإدارة براتب خيالي وعمولة مغرية نظرا للطلب الشديد عليها، وكلفها بعملية التدقيق هذه، وطلب منها اقتراح الحلول المناسبة لمعالجة هذا الأمر .
لم يكن الأمر سهلا، هكذا صورت (البومة) للأسد مهمتها، وكما هي عادة الخبراء والمستشارين الذين يضخمون الأمور ويفلسفونها ويقضون الكثير من الوقت في البحث والدراسة والتحليل قبل أن يخرجوا بالحلول التي عادة ما نتوقع أنها سحرية للقضايا التي عادة ما يصورونها لنا صعبة ومعقدة .
لذلك قضت (البومة) فترة قاربت العام تنقّب في دفاتر الدائرة، وتفحص خطوط الإنتاج والمداخل والمخارج قبل أن تخرج بتقرير ضخم يحتاج المرء إلى ساعات طويلة لقراءته وفهمه، لكنها توصلت في النهاية إلى أن هناك تضخما وظيفيا في الدائرة، وأن العلاج الوحيد لهذا التضخم هو التخلص من بعض الموظفين الذين يشكلون عبئا على الدائرة .
لم يكن أمام (الأسد) بعد هذه الدراسة ذات الكلفة العالية التي تكبدتها المؤسسة سوى الخضوع للحل الذي اقترحته (البومة) في تقريرها، ولكن من تراه أول من قرر أن يطيح به ويفصله من المؤسسة؟
لقد كانت (النملة) التي قال التقرير إن الحافز للعمل قد انعدم لديها، وأنها وقفت موقفا سلبيا من التغيرات التي حدثت في المؤسسة التي كانت أكثر إنتاجا وأفضل بيئة قبل أن تطرأ عليها كل هذه الأحداث وتحولها إلى بيئة طاردة لا تشجع على العمل والإنتاج