مشفق أنا جدا علي سجناء مصر والجزائر، فالذي يضيع في الرجلين هم مجموعات من الجماهير المصرية والجزائرية الغلبانة والتعبانة والفقرانة التي لا تملك شيئا سوي هذا الانتماء الساذج والمفرط في الهطل الوطني الذي يجعل من حب المنتخب حبا للوطن، ويعبر عن الإخلاص للبلد في صورة سب وقذف وضرب وحرق مشجعي البلد المنافس!
هؤلاء مواطنون في غالبيتهم شباب مضحوك عليه متوسط الثقافة محبط وهائم بلا مشروع ولا قضية، أقنعتهم وسائل الإعلام المهووسة في مصر والجزائر بأن حب المنتخب هو أسمي معاني الحياة، وأن الآخرين حقدة وحسدة وظلمة فأطلقوا الغوغاء من عقالهم ولخصوا معني الوطنية في بذاءة اللسان ضد المنافسين ورمي الطوب علي الخصوم والتهليل والتهبيل في التشجيع كأننا في حرب ضروس!
الفئة الباغية في مهزلة وعار أحداث العنف المتبادل بين جمهور مصر والجزائر هي رجال الحكم في الدولتين والإعلام منحط الكفاءة وسفيه العقل وضحل الوعي والثقافة في الدولتين، أما الشعبان فقد تحولا إلي جماهير شغب تم شحنهما بالغضب والحقد تجاه بعضهما واستغلال مشاعر ساذجة وعصبية متوقدة وتعصب أحمق في إشعال حريق نفسي وسياسي لن ينطفئ سريعا ولن تزول آثاره بسرعة!
مواطنو مصر والجزائر يعانون نفس المشاكل:
- قمع وقهرسياسي.
- إرهاب وتطرف ديني.
- احتكار للحكم وللحكومة، من خلال حزب متهم بالفساد ومشهور بالاستبداد.
- توزيع غير عادل للثروة، وظلم اجتماعي رهيب.
- اضطهاد خفي ومعلن للأقلية سواء بربر الجزائر أو أقباط مصر.
- رئيس يغير في الدستور كما يحلو له ويعدل في مواده كي يبقي في الحكم مدي الحياة.
- انتخابات هزلية وكذوبة ومزوَّرة.
- حديث مطنب وطاووسي عن حكمة الرئيسين وروعة حكمهما.
- إعلام حكومي وخاص يحصل علي حريته فقط في الحديث عن كرة القدم بينما يخرس وينافق ويبوس الأيادي في السياسة وفيما يخص الرئيس وسدنة الحكم وسدة العرش،
-انتهاك حقوق إنسان وسجون تمتلئ بمعتقلين بلا محاكمات وتحت ظل قانون طوارئ لا ينتهي.
ما الذي يفعله كل شعب إذن أمام وتحت كل هذا؟
أبدا.. يغرق في انتصارات الكرة الوهمية، ويغطس في وحل التعصب الأحمق، ويختصر الوطن في كرة منفوخة، ويصنع أبطاله من لاعبين علي نجيلة خضراء، ويسرق فرحته من قلب تعاسة محكمة ومتحكمة حين يحرز لاعب هدفاً أو حين يرفع مدرب كأسا.
في كل الدنيا الانتصار الكروي مبرر لفرح وطني هائل ورائع ولكن الانتصارات الرياضية لا تتحول إلي بطولات وطنية ولا تُغني معها أغان وطنية وأناشيد قومية، ولا ننفخ في ذاتنا ونعتبر أنفسنا سادة العالم حين نفوز في بطولة أو مباراة، لكن النظم العسكرية والبوليسية يهمها أن تخدر الناس وتعميهم فتشغلهم بكرة القدم وتلهيهم بصراعاتها وتدمج الفوز في الكرة بالنصر في السياسة، فإذا بالشعوب العطشي للفرح والمنكسرة ثقافيا تركض نحو هذا الانتماء الكروي تعويضا لها عن خيبات في الرزق وأكل العيش والكرامة المبددة والكبرياء المهدر!
لايوجد الآن إلا الدول العربية التي تقوم بتسييس كرة القدم، لأنها دول متخلفة سياسيا وديكتاتورية ولا تملك شيئا تعطيه للحضارة الإنسانية إلا التعصب الكروي والتطرف الديني!
لقد تحولت الأحداث المحيطة بمباراة مصر والجزائر إلي عار حقيقي يلاحق الطرفين، وأي محاولة لتبرئة المصريين أو إظهار الجزائريين كضحايا هي محاولة تضليل وتدليس، فالطرفان، المصري والجزائري، متورطان حتي الأذقان من إعلام رخيص ومتبجح سواء في صحافة الجزائر التي لفقت وبالغت وفبركت، أو في برامج الفضائيات المصرية الفجة والتافهة التي نفخت الكير وأظهرت جهلا ثقافيا وسياسيا فاضحا، وكذلك مسئولو الدولتين في كرة القدم وقد ظهروا متوسطي الذكاء وغائبي الوعي ومحدودي التفكير وعاجزي الخيال فشاركوا في صناعة الفضيحة وجلب العار الذي لن يمحوه صعود أحدنا إلي كأس العالم، ثم رجال الدولة ومسئولو الحكم في البلدين الذين ضغطوا علي أعصاب الجماهير وزايدوا علي وطنيتهم واستغلوا مشاعر الناس وتاجروا بالكرة ولاعبيها وعبثوا في ضمائر شعبيهما فأوصلوا المصيبة إلي حد أن قذف شباب طائش ومريض أتوبيس المنتخب الجزائري بالحجارة وسط إنكار مثير للشفقة من مسئولي مصر وحكومتها، وأوصلوا لاعبي الجزائر إلي حد الهوس والخطرفة بضرب الأتوبيس من الداخل في محاولة لتحطيم النوافذ كي يطولوا الجمهور المصري العابث. والمؤسف أن مسئولي الجزائر كذلك شاركوا في لعبة الإنكار المقيت، ثم سقط جرحي من المصريين والجزائريين نتيجة ضرب أتوبيس جزائري آخر بالطوب، أنكر الإعلام المصري حدوث الواقعة كلية رغم تصريحات المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة المصرية بسقوط عشرين مصابا جزائريا واثني عشر مصابا مصريا، ومع إنكار إعلامنا جاء كذب إعلامهم فحول الجرحي المصابين إلي قتلي في نعوش وتفجرت الأوضاع وسط هزال أمني في البلدين، كأن هناك حالة رضا أو تواطؤاً ورغبة في إشعال الموقف؛ كسبا للارتماء الشعبي في أحضان النظم والحكومات واصطناع أزمة يتكسب منها الطرفان من خلال إلهاء مواطنيهما أو المزايدة علي مشاعرهم أو الاتجار بوطنية زائفة وقشرية!
وأغلب الظن أن الطرفين جهزا مبكراً مبررات الهزيمة أو طقوس الفوز، وسيتم التلاعب بمشاعر المصريين والجزائريين سواء فاز منتخبهم أو انهزم، فإن فاز فقد فاز رغم كل المصاعب والمحن والإحن والتوترات والمؤامرات، وإن انهزم فقد انهزم لكل هذه المصاعب والمحن والإحن والتوترات والمؤامرات، والذي يدعوك فعلا للتعجب من الطرفين أن كلا من مصر والجزائر غير معروف لهما أي تفوق متوقع في نهائيات كأس العالم، كما أن الفريقين قد لا يصعدان للدور الثاني في البطولة أصلا، ومع ذلك فقد تحولنا وكأننا لو صعدنا سنحطم العالم وسنكتسح الدنيا، ثم الصعود نفسه لكأس العالم علي أهميته وتاريخيته مسألة بسيطة وموسمية وعادية عند تسعين في المائة من المنتخبات التي تشارك فيه سواء من أمريكا الجنوبية أو الشمالية أو أوروبا بل آسيا، فما بالنا نحن في مصر والجزائر نتعامل مع الصعود كأنه حلم، وربما يكون بالفعل حلما لكنه حلم كروي بينما هو في ذات الوقت مجرد وهم سياسي!
ما أثبتته الأحداث أنه لا طرف بريء رغم أن كل طرف سيكذب ويقول شعرا في ذاته وعظمة ذات جنابه، وهي خصلة عربية صميمة، ربما ولدنا بجينات تجري داخل خلايانا وكرات دم من الكذب والإنكار والتجاهل والنفخة الكذابة وهي تتجول في شراييننا مع كرات الدم البيضاء والحمراء، لكن الجانب الأشقي في المسألة هم سجناء البلدين، فالمصريون والجزائريون أشبه بمساجين في سجن وطني كبير ممنوع عنهم الحلم والحرية والعيش المحترم الكريم الآمن، وكما كل السجناء فإنهم يتحولون إلي أعداء لزملائهم في السجن، وينقسم السجن دوما في صراع علي نفوذ وسيطرة وسطوة داخل سجن ومن سجناء لسجناء، ويصبح انتصار السجين ليس الفوز بحريته بل الفوز بساعة زيادة في حوش السجن أو صابونة إضافية في حوضه أو سور يحوط مبولته، أو قدرة علي جعل زملائه في الزنزانة خداما له، وهكذا صرنا وكأننا نسعي لإحراز بطولة دوري السجون، الأمر الذي يذكرك بفيلم بديع ناطق بالدلالة وصريح في الرسالة حيث إن الكرة يمكن أن تكون نصرا للمسجون ضد السجان أو فوزا غاليا عظيما للذين ضاعت كرامتهم وراح كبرياؤهم فيبحثون عنه في فوز بمباراة ضد منافس أو خصم ولو كان فوزا بين أسوار سجن، عدت لهذا الفيلم كي أفهم ما يجري في سجن بلدي ومع سجن شقيقتي الجزائر، كان ظهور بيليه وحده كفيلاً بأن يجعل هذا الفيلم السينمائي تاريخياً، ثم إنه فيلم عن التاريخ والحرية والسجن وعن كرة القدم.. نتحدث عن فيلم سينمائي تم إنتاجه عام 1981 وها هو يعود كثيفاً وثقيلاً ليملأ المشهد السياسي والكروي بعد أكثر من 28عاما علي ظهوره في هوليوود علي قدرها وقدها، فيلم يجيب عن سؤال: هل يمكن أن تكون كرة القدم سلاحاً وطنياً ونصراً لسجناء ومعتقلين داخل سجن شديد الحراسة شديد الوضاعة؟! الفيلم يحمل عنوان «الهروب إلي النصر» وهو عنوان جميل ليس أجمل منه سوي أن يتحقق مثل هذا الهروب يوماً ما لشعب ما. أخرج الفيلم «جون هستون» الذي توفي بعد إخراجه الفيلم بفترة قصيرة، ولم يكن الفيلم بطولة بيليه، أسطورة الكرة وأعظم لاعب في العالم وحده، بل شاركه من نجوم كرة القدم العالميين «أرديلس» نجم الكرة الأرجنتينية، الذي كان خارجا لتوه من بطولة كأس العالم 1978 متوجاً بالكأس وكان مشهوراً بارتدائه القميص رقم واحد في منتخب بلاده، وكذلك شارك في الفيلم نجم الكرة الإنجليزية «روبي مور» وهؤلاء كانوا ممثلين في الفيلم بأدوار بطولة رئيسية ولم يكونوا مجرد ضيوف شرف، وشاركهم البطولة الممثل الإنجليزي الأشهر «مايكل كين» ونجم هوليوود الضخم «سلفستر ستالوني» وكان وقتها مكللاً ببطولة فيلمه «روكي» الذي أدي فيه دور بطل ملاكمة!!
تدور أحداث الفيلم في فترة الحرب العالمية الثانية في فرنسا التي وقعت تحت الاحتلال الألماني النازي، وأقام الألمان علي الجزء المحتل من الأرض الفرنسية معسكراً لاعتقال الأسري من قوات الحلفاء، ضم هذا المعسكر ضباطاً وجنوداً من جنسيات مختلفة يخضعون لتعذيب نفسي وبدني تقريباً، قررت المقاومة الفرنسية مع البريطانيين وضع خطة كاملة ودقيقة للهروب من المعسكر تحت غطاء إقامة مباراة كرة قدم بين منتخب ألمانيا في كرة القدم ضد فريق يضم لاعبين من الأسري، كانت الخطة من اللحظة الأولي تستخدم مباراة كرة قدم وسيلة للهروب أثناء انشغال الألمان وفي فترة الاستراحة بين الشوطين، لكن الكرة غيرت كل شيء!.. وافق الألمان علي إقامة المباراة التي حضرتها جماهير فرنسية واقعة تحت الاحتلال تسعي لمشاهدة مباراة كرة بين المحتلين الغاشمين المغرورين وبين لاعبي دولهم المحتلة المهزومة، كان الجمهور يتشوق إلي فوز ونصر كروي يسترد معه كبرياءه المهدور وكرامته المذلولة بالاحتلال، متعطشين للتفوق علي عدو وهزيمته؛ ثأراً وانتقاماً حتي ولو في مباراة وعلي ملعب ومع صافرة حكم «وليس حكومة» وكانت قوات الاحتلال تسعي لاستعراض قوتها الرياضية إلي جانب قوتها العسكرية طغيانا وغروراً، ولضرب الروح المعنوية للمهزومين وتكسير عظام شعب محتل، نالت فكرة إقامة المباراة تهكما علي لسان بعض من أبطال الفيلم «ومن خارجه حيث نقاد لا يرحمون ولا يتركون رحمة ربنا تنزل»؛ حيث متي كانت كرة القدم حلا لكل مشاكل الحياة وساحة للحروب السياسية والعسكرية؟!.. ومع ذلك كانت مشاهد المباراة واحدة من أهم مشاهد الكرة تميزاً وإحكاما وحيوية في تاريخ السينما، حيث يبدو المخرج جون هستون محبا للكرة عارفاً بها عاشقاً لتفاصيلها وعلاقة الجمهور بها «علق أحدهم علي الفيلم بأنه سوف ينال إعجاب محبي الكرة وإعجاب محبي الحرب - يقصد أفلام الحروب!» كان حماس الجميع في الفيلم بالغاً.. المنتخب الألماني الذي يريد أن يؤكد تفوقه العسكري ويسحق الإنجليز والأمريكان ويمرغ أنوفهم في التراب، ويبدو الصلف والعجرفة في تحركاتهم علي أرض الملعب وعند رايات الكورنر ومنطقة الجزاء كأنهم أبطال العالم، ولكن فريق الحلفاء يبدو ضعيفاً فهو يشعر أنه سوف يسترد كرامته ويفوز حين يهرب من المعتقل فليس بالضرورة الفوز في المباراة بل المهم هو الفوز خارجها! لكن جموع الجماهير كانت ضخمة في الملعب ومنفعلة ومتعطشة لنصر، مكسورة تريد أن تفرد ظهرها، منحنية تحلم أن ترفع قامتها، خذلهم فريق الأسري الذي انهزم في الشوط الأول وبدأ أفراد الفريق يهربون فعلا بين الشوطين طبقا للخطة، وإذا بالسجين بيليه ساحر الكرة الذي يعشقها داخل الفيلم ويري الفوز في مباراة كرة قدم ضد خصم وعدو تعويضاً عن الهزيمة في معركة وحرب عسكرية، يرفض أن يهرب ويقرر أن يعود إلي أرض الملعب، وأن يواجه أعداءه بلعبة بكعب القدم أو بضربة خلفية مزدوجة، بهدف رائع وبصيحة جمهور منصور وهتاف مشجع مخلص، بيليه استدار وقرر أن يعود ليواصل اللعب في الشوط الثاني، قرر ألا ينتصر علي عدوه بالهروب من المعتقل بل بالفوز في الملعب وهكذا نظر أرديلس وفكر وقرر مصمما ومصراً علي أن يعود للملعب، وروبي مور كذلك، عادوا حتي لا ينال المحتل الغازي النازي النصر في الملعب، لن يتحمل الجمهور هزيمة اللعب التي تضاعف هزيمة الحرب، لن يتركوا الاحتلال يهنأ بانتصار كروي ولو كان الثمن ألا يخرج هؤلاء الأسري من المعتقل أبدا، سنرد الضربة وسنفوز وهكذا يحطمون الخطة العسكرية مقابل خطة «4-4-2»، رفضوا أن يهربوا وعادوا لاستكمال المباراة إلي حد أن حارس المرمي سلفستر ستالوني بعد أن هرب وخرج فعلا من معسكر الأسري، رأي زملاء الملعب والأسر يعودون إلي الملعب والجمهور، فعاد للمعتقل، للكرة والمواجهة من أجل هدف يهز الشباك، ووسط ذهول العسكر والجنود المشاركين في الخطة يعود اللاعبون ويقلبون الهزيمة نصراً، وفي واحدة من أجمل الوثائق المصورة لمجد بيليه نراه يقدم عصارة فنه الكروي وباليه حركاته في الملعب، ينتصر الأسري المحتلون فيرتج الملعب بفرح الشعب الذي ينفجر فرحا وزهواً، يهلل ويصرخ ويهتف ويصيح فيتقدم بشجاعة كبري استمدها من النصر الكروي ومن تحويل الهزيمة إلي نصر ويقتحم أرض الملعب، يواجه جنود الاحتلال ومدافع وبنادق المحتل ويحمل اللاعبين ويحررهم ويهرب بهم من المعسكر، كأن النصر صار نصرين، واحد في ملعب المباراة.. وآخر في ميدان المعركة!
متي يهرب الشعب العربي في مصر والجزائر وفي كل مصر وجزائر من سجن حكامه وقمع ضباطه وقهر مسئوليه ويحطم أسوار السجن لينتصر في أرض الملعب وفي لعبة الحياة؟ |