لليوم الرابع على التوالى، ولأجَلٍ غير مسمًى، يعلمه اللهُ ورسولُه والمسؤولون عن المياه والمرافق فى مصر، تعيش مدينةُ الرحاب فى جفاف تامّ! دون قطرة مياه واحدة.
والأخطر، والأشدُّ إيلامًا و«جفافًا»، دون كلمة واحدة من مسؤول، سواءً كانت، كلمةَ اعتذارٍ، أو توضيح! أعرفُ يقينًا أن هواةَ تربية الحيوانات، من قطط وكلاب وطيور، وحتى ثعابين وبوم وقوارض، يكلّمون حيواناتهم. يتعاملون معها كأنما هى بشرٌ عاقل! يحترمونها! يداعبونها حين يقدمون لها الطعام، ويعتذرون لها، إن الطعامُ تأخر عن موعده.
لكنْ، يبدو أن المواطن فى مصرَ لا يرقى لتلك المعاملة! فتنقطع عنه المياه، والكهرباء، وجميع الموارد الحيوية، تتضاعفُ أسعارُ السلع، ويختفى بعضُها، مثلما تتضاعف فواتيرُ الكهرباء والتليفون والمياه، دونما كلمة واحدة من مسؤول. كلمة تبرير، أو «تصبير»، أو توضيح، أو تلميح. المواطنُ فى مصر غيرُ موجود! كنّا، قبل سنوات، نقول إن المواطنَ المصرى رخيصٌ لدى حكومته، الآن صرنا نقول إنه غير موجود أصلاً!
انقطعتِ المياهُ أول أيام رمضان عن المدينة بأسرها، ثم عادت بعد الإفطار. ثم انقطعت فى اليوم التالى ولم تعد أبدًا! اتصلنا برقم شكاوى المدينة 16184، فقالوا، بنفاد صبر، إن الأمر خارج حدود تصرفهم.
وعلى مَن يعترض أن يتصل برقم شكاوى القاهرة 125. ثم أغلقوا الخط نهائيًّا فى وجه قاطنى المدينة. لكنهم نسوا، قبل أن يغلقوا باب الاتصال، أن يرفعوا أيضًا تلك الرسالة المسجّلة السخيفة: «أهلا بك فى جهاز مدينة الرحاب، ولضمان جودة الخدمة، نرجو العلم بأن مكالماتك قد تكون مسجلة. ثم تيت تيت تيت تيت (بتاعة الخط المشغول!)». الأمر نفسه يحدث مع 125!
قالوا انفجرت ماسورةٌ فى مدينة العبور. وقالوا فى التجمع الأول. وأيًّا ما كان الأمر، وأيًّا ما كانت المشكلةُ التى تفتكُ بك، فأنتَ مواطنٌ لا قيمةَ لك! سواءً كنتَ تسكن فى الرحاب، أو فى العشوائيات. أنت «نكرةٌ» لدى حكومة بلادك، ولدى مسؤولى بلادك، ولدى حكّام بلادك. أنتَ زائدٌ عن الحاجة.
تجوّلْ فى مدينة الرحاب، تلك المدينة الراقية، لتجد الرجالَ والنساء يحملون «الجراكن» الفارغة يدورون بها، علّهم يقعون على صنبور أو خرطوم به بعض قطرات منسية. رأيتُ النساء اتخذن من حمّام السباحة فى نادى الرحاب مأوًى لهن، بعدما لفظتهن بيوتهن الجافةُ من المياه.
رأيتُهن يفترشن الفوط الكبيرة حول الحمّام ويغططن فى النوم. ورأيتُ الأمهات يسحبن أطفالهن ليحمّمنهم فى غرف تغيير الملابس فى النادى، المكان الوحيد بالمدينة الذى مازال ينعم ببعض الماء! لكنها نعمةٌ مؤقتة، ستزول بعدما تنضبُ خزاناتُ المياه الاحتياطية.
قد نتحمّل جفافَ الماء، وجفافَ الحلق، وجفافَ الروح حتى، مادمنا فى بلاد لا تحترم آدمية مواطنيها، ولكنْ كيف نتحمل تجاهل مسؤول يبخل بكلمة واحدة قد ترطّب ذلك الحلقَ الجاف، وتلك الروحَ المتشققة؟ ماذا يضير مسؤولا، يعيش فى رَغَد السلطان، أن يذيع بيانًا مقتضبًا فى جريدة أو إذاعة أو تليفزيون، يهدئ من روع الناس، ويطمئنهم أن الأمر طارئٌ، وأن الحكومة تعمل على قدم وساق من أجل حلّ الأزمة. ولو بالكذب!