مقدمة
تنظر غالبية الشعب المصري إلى سكان المدن الاستثمارية الجديدة عامة، والرحاب خاصة، باعتبارهم ناس "هاي خالص"، لا تعرف الهموم طريقا لهم، ولا يشعرون بأي أزمات في حياتهم، فبفلوسهم يجدون كل ما يريدون مهيئا لهم، وأقصى ما يعانونه من المشاكل لا يتجاوز هم استبدال السيارة بموديل أحدث، أو "هنصيف فين؟"، لا يمشون، ولا يشغلون بالهم بأرقام الأتوبيسات أو مواعيد المترو، لأن لديهم سياراتهم، الفارهة جدا طبعا، والتي يدخلون بهالا حتى أوضة السفرة، لا يتعبون لأن لديهم كل وسائل الراحة والرفاهية، لا يقفون في طوابير، ولا يشغلون بالهم بأسعار السلع، زادت واللا نقصت، فالزيادة في أسوأ الظروف لن تكون كبيرة بما يستحق أن ينفقوا ثانية واحدة للتفكير فيها.
تتكون هذه الأفكار والتصورات من خلال ما يشاهده العامة في وسائل الإعلام عن تلك المدن الجديدة، من خلال إعلانات تصورها على أنها قطعة من الجنة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لم يخطر على قلب بشر، جنات لا يدخلها إلا خلاصة الصفوة، وتتكون الصورة عادة من حمامات سباحة ونوادي ومولات للشوبينج وأماكن للاسترخاء والنوم والمتعة.
لكن الحقيقة أن الصورة الفعلية مختلفة تماما، فالرحاب،علي سبيل المثال وغيرها من المدن الجديدة، ليست هذا النعيم المقيم الذي يتصوره البسطاء، وسكانها ربما أصعب حالا منهم، ولديهم معاناتهم اية، ومشاكلهم وهمومهم التي تفوق هموم الغلابة وطأة في بعض الحالات، ولعل المفارقة أن الغلابة يشقون لأنهم لا يجدون ما يشترون به الرفاهية، بينما هؤلاء الناس الـ"هاي" بينهم من تغرب لسنوات، وطفح المرار لكي يدخر مبلغا يتيح له السكن في مكان هادئ وراق، ومنهم من دفع تحويشة العمر مقابل وحدة سكنية، ثم اكتشف أنه دفعها ليشتري العذاب، وليتحمل مرتبات خرافية لموظفين، من المفترض أنهم يشغلون هذه الوظائف لتلبية طلباتهم، والتعب من أجل راحتهم، لكنهم بدلا من هذا أصبحوا، أي الموظفين، آخر ما يفكرون فيه هو مصلحة السكان، بل ويتعمدون إهانتهم أحيانا، وتجاهل شكاواهم، ويتعاملون معهم وكأنهم مضطرون على تحملهم.
مدينة الرحاب (وشعارها: رؤية عصرية للحياة في مصر)، نموذج صارخ وواضح ومباشر لتلك المفارقة الطريفة، فمنذ سنوات، كانت إعلانات مدينة الرحاب تملأ الشوارع وصفحات الجرائد وشاشات التليفزيون، وكانت الشركة صاحبة المشروع تقدم المدينة باعتبارها الوجه الأمثل للحياة مستقبلا في العاصمة المصرية التي باتت تئن من الزحام.
كانت إعلانات الشركة تركز، كما تركز الآن في إعلاناتها عن مدينتي (المدينة العالمية على أرض مصرية)، على ما تتفرد به الرحاب من النظافة، النظام، الهدوء، الخصوصية، الأمان، الراحة والرفاهية، وبالقطع، كانت هذه أهم الأسباب التي جعلت الناس يتسابقون على الحجز في المدينة الجديدة، حتى قبل البدء الفعلي في وضع أساس بعض المراحل منها.
مرت عشر سنوات على افتتاح الرحاب للسكنى، وبدأت الرجل تدب في شوارعها تدريجيا، واتسع نطاق المدينة مرحلة تلو أخرى، واتسع كذلك نطاق الخدمات الضرورية من مياه وكهرباء ونظافة وأمن ورعاية حدائق وبوابات، ليصبح "الجهاز" هو المسئول عن إدارة المدينة، وعن كل هذه الخدمات.
السكان الذين انتقلوا للعيش في الرحاب اكتشفوا أنهم تعرضوا لخدعة كبيرة، بعضهم يتحدث عن سرقات تحدث وبشكل شبه يومي، ما بين كسر للأبواب وتحطيم للسيارات، أو اقتحام للبلكونات، فمسألة الأمن والأمان هناك لم تعد موجودة بالشكل الذي كانت عليه في الشهور الأولى للمدينة.
آخرون يكررون شكاواهم من كثرة الكلاب الضالة في شوارع المدينة، فيرد عليهم المسئول: "يعني أعمل ايه؟ آجي أهشهم؟"، ثم يهجم كلب شرس على طفلة صغيرة ويغرس أظافره في وجهها، ويكاد يمزقها لولا وجود والدها قريبا منها، الذي يخرجها من بين أنيابه وقد تجرحت، وحين يذهب بها لمركز العلاج في المدينة يجد الطبيب هناك لا يقفه شيئا.
سكان يتحدثون عن "مخدرات" يتم توزيعها بشكل شبه علني في أماكن معروفة بالمدينة، وعن شقق تدار لأعمال منافية للآداب، في الوقت الذي يصعب الاقتناع فيه أن المسئولين عن الأمن هناك لا يعرفون عن كل هذا شيئا، بينما أفراد الأمن "غلابة" ليسو مدربين على أعمال الحماية والحراسة، وقد تحولت مهمتهم، كما يقول سكان، إلى التجسس فقط على الملاك لصالح جهاز المدينة.
فإحدى السيدات تحكي أنها تحدثت مع أحد جيرانها بعد وقوع حادثة سرقة في منزله، فتفاجأ بأحد مسئولي الأمن يلومها على هذه الخطوة، رغم أنها لم تكن قد أخبرت أحدا، لكنها تتذكر أنها رأت أحد أفراد الأمن يتابعها أثناء حديثها مع جارها المسروق.
الهدوء لم يعد ميزة للرحاب، فالمدينة بفضل إصرار جهاز المدينة على فتح البوابات للعابرين، ولعب الشباب المستهترين، تحولت إلى سوق كبير، لا يهنأ أحد فيه بنعمة الهدوء.
حتى المساحات الخضراء المبينة في العقود لم تعد موجودة، فالشركة تقتلع كل عدة سنوات حديقة لتحولها إلى مركز تجاري أو جراج، (مما قد يجعلها بلا حدائق خلال سنوات أخرى) وتؤجرها مقابل رسوم دورية ثم لا أحد من مشتري الوحدات السكنية، الذين يفترض أنهم الملاك الحقيقيون للمدينة، يعرف أين تذهب هذه الأموال ولماذا لا تضاف لرصيد المدينة وتخصص لمصاريف الصيانة بحيث تخفف عنهم، فالجهاز يتعامل مع كافة الأمور المالية المتعلقة بالمدينة بسرية تامة، وفي الوقت نفسه يتجاهل شكاوى الملاك ولا يرد عليهم، مما دفع البعض، أي الملاك، للتصريح أنه يحس بالإهانة من تجاهل مسئولي الشركة لهم.
شيشة وفحم وتليفزيون كبير على الرصيف أمام عشرات الكراسي يجلس عليها العمال الذين يتبادلون الصياح والشتائم المنفرة أحيانا، أصحاب محلات يحتلون الأرصفة ويشوهون المظهر الحضاري للمدينة، ويقوم بعضهم، باحتلال الأرصفة أو افتتاح واجهات للمحلات على شوارع رئيسية على عكس المخطط العام للمدينة، والذي على أساسه تعاقدت الشركة مع عملائها (ألا يرى جهاز المدينة كل هذا؟).
تستأجر سيدة إحدى الفيلات وتجعلها مقرا لحضانة أطفال، لكن فجأة يقتحم المكان مجموعة من البودي جاردات، يطردون السيدة وأطفالها من الفيلا، ويرمونها في الشارع، بدعوى أن عقد بيع الفيلا ينص على أنها مكان للسكن فقط، وليست للاستغلال التجاري.
يثور السكان على هذا التصرف من جانب جهاز المدينة، خاصة وأن هناك عشرات المحلات تخالف لائحة المدينة، ويفتتح لها واجهات على الشوارع الرئيسية، والجهاز نفسه يستبدل الحدائق بأماكن تجارية بالمخالفة أيضا لنفس اللائحة، وإحدى شركات المقاولات كانت تسد شارعا رئيسيا بالمدينة ولم يتعرض لها أحد.. ويعلق سكان على هذا الوضع كله بالقول أن الشركة تستخدم البودي جاردات لإرهابهم، وتغض الطرف عن تصرفات التجار.
رسوم صيانة، يغير الجهاز تسميتها إلى رسوم إدارة، يشكو من ارتفاعها أغلب السكان، ويتساءلون عن أسباب هذا الارتفاع الكبير في تقديرها، خاصة وأنها صادرة من الجهاز نفسه، أي ليست رسمية حكومية، مما يجعل بعض شاغلي الوحدات السكنية يستغربون قيام الجهاز بدور الحكومة، وتجاهله تساؤلاتهم المستمرة وشكاواهم من ارتفاع تكاليف الصيانة.
فالشركة التي تبالغ في تقدير تكاليف الصيانة (أو الإدارة كما تسميها هي)، تفتح البوابات للزائرين، وتترك لهم حدائق المدينة وشوارعها ومرافقها لاستغلالها كما يشاءون، في حين يتحمل السكان وحدهم تكاليف صيانتها، مما جعل هؤلاء الأخيرين، أي السكان، ينظرون للأمر باعتباره استغلالا بغيضا، ويكرر بعضهم: هل نحن نكرات تقتصر مهامنا على الدفع والطاعة؟
السكان يدفعون للحكومة رسوم المياه، بإيصالات رسمية، لكن جهاز المدينة يقطع المياه عن شقة أي سلكن إذا تأخر في دفع رسوم الإدارة (الصيانة سابقا)، رغم علمهم أن هذا ليس قانونيا، وفي المقابل يشكو سكان آخرين من سوء أعمال الصيانة، وأحدهم يقسم أنه أبلغ جهاز المدينة عن غياب الإنارة من مداخل المجموعة التي يسكن فيها، ثم انتظر شهرا كاملا ليقوم الجهاز بمهمته، ولما يئس اضطر لشراء لمبات وتركيبها بنفسه على سلالم عمارته، فأين إذن تلك الصيانة التي يدعون القيام بها؟، هكذا يتساءل الساكن.
يطلب عدد من السكان من الجهاز شراء بضعة أمتار من الحديقة الصغيرة أسفل العمارة لتكون خاصة بهم وحدهم، فيرفض الجهاز، بدعوى أن مخطط المدينة معروف منذ سنين، وهناك نسخة منه لدى جهاز القاهرة الجديدة في التجمع الخامس، وتستحيل مخالفته، في الوقت الذي يغير الجهاز نفسه من مخطط المدينة، فيزيل حدائق ويقيم منشآت بدلا منها، لصالح أشخاص بعينهم، (فهل لدى هذا الجهاز خيار وفاقوس؟).
تتعرض إحدى العمارات لمشكلة متعلقة بالمياه، فيقوم جهاز المدينة بقطع المياه عن العمارة لمدة أربعة أيام متتالية، وحين تتصل إحدى السيدات بمسئول الجهاز يرد عليها: انتو جيران في بعض.. اولعوا.
إذا كنت من أصحاب الشقق أو الفيلات في الرحاب، وأردت بيعها لأي سبب، (ولو حتى لابنك بشكل صوري) فأنت مضطر لدفع نسبة 8% من ثمن البيع للشركة، هكذا ينص العقد، هذا البند يعتبره السكان في المدينة "إتاوة" مفروضة عليهم بجانب رسوم الصيانة، وإذا حاولت التحايل على هذا الشرط الجائر، واكتفيت بعمل توكيل رسمي لابنك ، مثلا، وحاول ابنك تغيير عداد الكهرباء باسمه، سوف ترفض شركة الكهرباء، (رغم أنه يمكنك في أي منطقة أخرى من القاهرة تحويل العقد باسمك عبر توكيل رسمي موثق في الشهر العقاري)، وسيقول لك الموظف هناك أن الشركة، يقصد شركة الرحاب، هي التي طلبت هذا، (وكلاهما يعرف أن هذا إجراء غير قانوني، لكنه نوع من لي الذراع، ويمكنك أن تسميه ابتزازا، حتى تضطر لتحويل الملكية من عندهم فتدفع نسبة الـ8% من قيمة عقد البيع).
أما الأطرف، فهو أنك لن تستطيع نقل الملكية إلا إذا كنت مشتركا في نادي الرحاب.
الوضع في مدينة الرحاب الآن ليس هو ما وعدت به عملاءها في البداية أبدا، فأن يصرخ السكان من تجاهل جهاز المدينة، ومخالفة الشركة للعقود، ويفكر العشرات منهم في رفع دعاوى قضائية ضد الشركة، وأن يصل الحال إلى ما وصل إليه الآن، فهذا يعني أن الشركة، وبوضوح، باعت للناس الوهم، وضحكت عليهم بعد أن حققت ما كانت تطمح إليه من مبيعات، ثم أدارت ظهرها للمدينة وأهلها، وليذهب هؤلاء الذين حلموا بسكنى هادئة مريحة منظمة إلى الجحيم.
أن يتساءل أحد السكان: "لماذا نقبل هذه المعاملة؟، لماذا نقبل أن نستغل بهذا الشكل؟، لماذا نقبل أن تستغل مدينتنا بهذا الشكل من قبل بضعة أشخاص، يفترض أنهم هنا لخدمتنا وليس استغلالنا" فهذا يعني أن هذا الساكن قد وصل لآخره، ولم يعد يطيق، وخلاص، سوف يقطع هدومه من الشركة ومن جهاز المدينة.
وحين تسمع ساكنا آخر يقول لجيرانه: "حاولوا أن تتأقلموا على الوضع، وصدقوني هم الخاسرون (أي الشركة والجهاز)، وإذا كنا نحن خسرنا الفلوس، فهم خسروا مصداقيتهم وأشياء أخرى أخجل أن أذكرها" ستدرك إلى أي مدى يشعر السكان بخيبة أمل تجاه الشركة.
وحين يصرخ ساكن آخر مخاطبا جهاز المدينة: ارفعوا أيديكم عن أملاكنا يا سادة"، فلعلك تشعر كيف تطورت العلاقة بين السكان والشركة التي تدير المدينة، ولعلك تتساءل أيضا: إذا كانت الرحاب، المدينة التي كانت الشركة المنشئة تقدمها للعالم باعتبارها التجربة العقارية الأفضل في الشرق الأوسط قد وصلت إلى هذا الحال، هل تلاقي "مدينتي" يوما ما نفس المصير؟
أما لماذا هذا الكتاب عن هذه المدينة وهذه الشركة تحديدا؟ وهو سؤال واجهته كثيرا خلال فترة إعدادي له، فسأجيب عنه، وسأكون صريحا بما يكفي لأن أعلن أن دافعي الأول لهذا الكتاب كان في البداية شخصيا بحتا، وهدفي كان الثأر.. ولهذا قصة أحب أن يعرفها القارئ.
قصتي وهذه الشركة بدأت في نوفمبر 2002، كنت وقتها هذا الشاب الطموح، المتخرج لتوه من كلية الآداب في قنا، الصعيد الجواني، والذي كان يحلم دائما بيوم التخرج ليعد عدته الأبدية لغزو القاهرة، وفتحها، وحملها على الطاعة له طواعية أو كراهية.
جئت من الصعيد حاملا حلمي الكبير: "سأعمل صحفيا، وسأصبح مشهورا جدا، وربما زعيما سياسيا، وسأعود إلى قريتي مظفرا سالما غانما، وأكون نائبها في مجلس الشعب، وسأنقل كل مشاكل أهلها إلى البرلمان، هذه المشاكل التي يعاني منها الصعيد بأكمله"، كان هذا هو حلمي الرومانسي الكبير، البسيط في الوقت نفسه.
جئت باحثا عن تلك الجريدة المحظوظة التي سوف أصطفيها بكتاباتي وشغلي وتحقيقاتي الصحفية التي سوف تخرب الدنيا، أقصد تعمرها طبعا، لكني لم أكن أعرف من أين أبدأ، هل أذهب لأي جريدة وأقول لهم: "أنا عايز أشتغل"؟.. لا أعرف في القاهرة أي أحد، وليس معي من الزاد ما يكفيني للبقاء طويلا بلا عمل، لم أكن أعرف إلا ابن عمي، الفتى الجدع ابن البلد الذي يثني عليه كل من جاء إلى القاهرة من أبناء قريتنا.
كان ابن عمي يعمل في شركة الرحاب، سكرتيرا فيما أذكر، مهمته تسجيل أسماء العمال كل صباح، من منهم نزل الشغل ومن غاب، وبعدها يسجل كل هذا في دفتر كبير، تقوم الشركة على أساسه بتقييم العمال ورصد مرتباتهم.
اتصلت بابن عمي، ثم ذهبت إليه، قصصت عليه حلمي، فعرض عليّ العمل في الشركة، التي كانت وقتها لا تزال تنشئ المرحلة الرابعة من مدينة الرحاب، وقال لي أنها شركة كبيرة ومرتباتها حلوة، ويمكنني أن أوفر كل شهر قرشين، هكذا أغراني ابن عمي، وعندما يتوفر لي مبلغ مناسب يمكنني أن أنزل القاهرة وأبدأ العمل من أجل حلمي الذي جئت من أجله.
ولأنه يعرفني "مش بتاع كد وتعب وشغل شقا" فقد دبر لي فرصة في العمل كـ"فرد أمن"، كانت مهمتي تقتصر على الوقوف في أحد مواقع العمل من الثامنة صباحا وحتى الثامنة مساء، كان مشرف الأمن يقول لنا: انتو مش هتحرسوا حاجة، ولا تقدروا أصلا، احنا عارفين كده، وأفهمنا أن مهمتنا هي الإيحاء أن هناك حراسة على الموقع بحيث يختشي اللصوص، فقط!، بالمناسبة كان العمال الصغار يتعاملون مع المشرفين باعتبارهم "آلهة" صغيرة، لا يعصَى لهم أمر.
كان نظام العمل في الشركة يقتضي أن تعمل 45 يوما دون أن تأخذ قرشا واحدا مقابل هذا، ثم تصرف مرتبك بعدها كل أسبوعين، كان راتبي كفرد أمن 360 جنيها في الشهر، وهو مبلغ كبير ومغر فعلا في ذلك الوقت، لكني ورغم هذا لم أتحمل الوضع هناك أكثر من 45 يوما، بعدها "طفشت"، ولولا إلحاح ابن عمي والزملاء بلدياتي ما تحملت أسبوعا واحدا.
فأماكن النوم أسوأ مما يتخيل بني آدم، عنابر زحمة وكئيبة ومظلمة، مصنوعة من الصاج الخالص، تتحول صيفا إلى كتلة ملتهبة من السخونة، وشتاء إلى قطعة ثلج مجوفة، والمياه، إن وجدت، سيئة جدا، ورائحتها مستفزة، والطعام مرتفع الثمن، والعيش مخلوط ببقايا السجاير، لا تتعجب إن وجدت فيه عجينة نيئة في حجم ليمونة صغيرة وسط الرغيف.
أين القاهرة التي جئت من أجلها؟ أين البشر والأضواء وإشارات المرور وفرص الحياة والشغل الحقيقي؟، كان من حولي قانعين، رغم سخطهم الشديد من الوضع اللاإنساني لظروف معيشتهم، من أجل لقمة العيش.
شباب في عمر الزهور، تركوا بلادهم وأهاليهم وجاءوا للموت في هذا المكان، في شركة لا تحترم آدميتهم، فلو كانت تحترمها ما تعاملت معهم بهذا الشكل.
كنت أرى الشركة مقبرة يدفن فيها هؤلاء الشباب أعمارهم، فالحقيقة لا شيء ملون، كل الحاجات قاتمة كئيبة مكفهرة، حتى الوقت، صامت وبليد.
طفشت من الرحاب، ونزلت لأعمل صحفيا، من الحوار الجديد، وصوت النيل، وقلب البلد (تقريبا هكذا كان الاسم)، ثم الغد (غد أيمن نور)، ثم عيون الليل، فالحادثة، فالطريق (النسخة الأولى)، فالأنباء الدولية، فالجمعة، فالطريق (النسخة الثانية)، فالبلاغ الجديد، فالفجر، فالبديل، ولم يكن هاجس الكتابة عن زملاء الكدح الأول في الرحاب يغيب عن قلمي لحظة واحدة.
جاءت الفرصة للكتابة عن عمال الرحاب حين كنت أحرر صفحة "الناس" في جريدة الطريق، برئاسة تحرير الأستاذ جمال العاصي، ذهبت لسكن العمال، وأعددت موضوعا كبيرا عنهم، من واقع معايشتي للتجربة، ومن واقع الصور الفوتوغرافية التي التقطتها لمساكن العمال وظروفهم، وبعد النشر جاءني رد من هشام طلعت مصطفى، رئيس مجلس إدارة الشركة، ينفي فيه كل ما كتبته، ويقول أنهم أنشئوا مساكن جديدة للعمال بمستوى فندقي راق، مزودة بوسائل الأمان اللازمة، وأنشئوا كذلك ملاعب رياضية ووحدة طبية وإسعاف، كل هذا للعمال فقط، وبالطبع نشرت الرد كاملا، وعليه تعقيب مناسب، أرد فيه على رئيس مجلس إدارة الشركة قوله، وأفند مزاعمه.
في هذا الوقت، كنت حريصا على الابتعاد تماما عن ابن عمي الذي يعمل في الرحاب، ولا حتى الاتصال به تليفونيا، كنت مدركا أن الشركة تبحث عن هذا الذي يغذيني بالمعلومات، وسيكون ابن عمي لا شك هو الأقرب للشك إن ذاع أننا قريبان، وربما تفصله من الشغل، وأكون قد تسببت في قطع عيشه.
وللمفارقة، ابن عمي هذا من أشد المتحمسين لهشام طلعت وشركته، فهو يرى أنها فاتحة بيوت كثيرة، ومصدر رزق لآلاف العمال والمهندسين، وعندما قرأ ما نشرته الطريق، وعرف أنه أنا، شكاني لدى العائلة في البلد، وطلب منهم أن يكفوني عن هذا الرجل، فلا أنا "أده"، أي هشام، ولا هو، أي ابن عمي، يرضيه أن يفقد وظيفته بسببي.
بعدها عرفت أن الشركة نقلت العمال لمساكن بعيدة فعلا، وكثفوا من الحراسة الأمنية عليها لمنع الغرباء، وشددوا على أفراد الأمن: أي حد شكله غريب وماسك كاميرا، يتمسك، وعرفت أيضا أن العمال اكتشفوا ذات يوم أن الشركة عبأت خزانات المياه التي يشربون منها، ربما بطريق الخطأ، مياه صرف صحي، ثم عادت وسحبت المياه واستبدلتها بأخرى، ونظفت الخزانات.
ذهبت لتحقيق الأمر، لكن هذه المرة، اكتشف وجودي عدد من المهندسين والعمال، فمنعوني من التحرك، وضربني أحدهم، ثم اقتادوني لمكتب العقيد إبراهيم إبراهيم، أحد قيادات الأمن هناك، والذي احتجزني في مكتبه قرابة الأربع ساعات، واتهمني بالسرقة، وجاء بكمية صغيرة من الخردة وشوية سلك كهرباء واتفق مع العمال على الشهادة في محضر شرطة أنهم ضبطوني متلبسا بسرقتها، وزعق في وجهي، وصادر مني الكاميرا بالقوة، وكان طوال الوقت على اتصال مباشر بـ"محمود سراج" أحد كبار مهندسي الشركة، والذي كان فيما يبدو يملي عليه الأوامر أولا بأول.
بعد معاناة طويلة، أطلقوا سراحي، لكن بدون الكاميرا.
في نفس اليوم بدأت الشركة معي، ومع "الطريق"، سلسلة من المساومات، لم يكن أولها طلب القيام بحملة إعلانات (بدأ العرض بـ50 ألف جنيه ووصل خلال يومين إلى ربع مليون)، ولا آخرها محاولة تهديدي بشكل موارب عبر اتصالات هاتفية، ولا الدعوة للجلوس مع "فلان" الذي هو الكل في الكل في الشركة والتراضي معه، خاصة بعد أن تقدمت ببلاغ للنائب العام، قلت فيه كثيرا من تفاصيل ما حدث، واتهمت هشام طلعت والعقيد إبراهيم ومحمود سراج والمهندس الذي ضربني (لا أعرفه اسمه)، بالتعدي عليّ بالسب والضرب واحتجازي أثناء ممارسة عملي الصحفي، ومصادرة الكاميرا ثم مساومتي والجريدة طلبا للسكوت.
من ذلك الوقت وأنا أحس برغبة الثأر من هذه الشركة، التي تحولت في نظري (ربما بتأثير طبيعتنا الرومانسية المغرقة في المثالية، نحن الشعراء الصعايدة تحديدا) إلى آلة ضخمة، قاسية بلا قلب، لا تعرف معنى لقيمة الإنسان ولا كرامته، وترى كل الأشياء سلعا قابلة للبيع والمساومة، وحين نفكر بشيء على هذا الشكل، لا نملك إلا أن نمقته ونبغضه.
لم تكد تمر أسابيع، حتى تفجرت قضية مقتل سوزان تميم، واتهم فيها هشام طلعت، وفي غمرة مفاجأة القوم من الأنباء التي تتحدث عن تورط هشام في الجريمة، (قبل اتهامه رسميا ورفع الحصانة عنه، ثم بعد ذلك)، كان كثير من الأصدقاء والزملاء يبادرونني بالقول: بركاتك أهوه يا عم، الراجل راح في حديد، ومنهم من يقول أني "شيخ"، وربنا أخذ لي "تاري"، وبعضهم كان يحذر الزملاء من أنه "ييجي عليا"، حتى لا يلاقي مصير هشام.
أعرف أن كل هذا كان مزاحا بالطبع، وأضحك أمامهم، لكن في قرارة نفسي، كنت أشفق على الرجل، وأتساءل: كيف يحس ذو مال وسلطة هوى فجأة من القمة للقاع؟ كيف يتحمل حياة السجن والقيود والأسوار؟ كيف يطيق أن يجد نفسه ممنوعا من السفر والحركة والتصرف كما يريد؟.
لكن هذا، وللحقيقة، لم يكن يمنحني قدرا من التعاطف مع الشركة، فما زالت في نظري كيانا غير سوي، ديناميكيا، لا يحمل عظمة الكيانات الكبيرة وسموها ووجوهها الحانية، وما زالت تراودني كثيرا رغبتي في الثأر ممن ضربوني وحاولوا تلفيق قضية سرقة لي، ومن صرخ في وجهي، دون ذنب ارتكبته،: انت حرامي وهوديك في ستين داهية، وعندما أفكر في هذا بشكل حيادي لا أعرف إن كانت رغبتي هذه "سواد قلب" ورغبة سلبية في الانتقام الشخصي تنقصها أخلاق الفرسان، أم طبيعية صعيدية متكبرة لا تنسى الإهانة.
على كل حال هذه شهادتي عن نفسي في هذا الأمر، بكل صدق، ربما تجد من يتعاطف معها ويعذرها ويتفهمها، أو من يستنكرها ويهيل عليها التراب، لكني تمنيت ،من الله أولا ثم من نفسي، آلا يكون موقفي الشخصي من الشركة قد أثر على رؤيتي للأمور، وأن يكون قد حملني على التعسف في تأويل الأمور.
وأتمنى فعلا، ولا يسعني إلا أن أقول: يا رب.