كم حياة ستعيش؟ (2)
لا تبحث عن السعادة في المستقبل .. حققها الآن
أرسل الكلب والقط رسائل خاطئة فحُرما من العيش معًا!
كتبت:جنة ممدوح
أقام المركز الثقافي بنادي الرحاب مؤخرًا ندوة للأستاذ كريم الشاذلي، الباحث في العلوم الإنسانية تحت عنوان "كم حياة ستعيش؟" وقد نشرنا الجزء الأول من حديث الشاذلي والذي تناول ثلاثة من العناصر التي يجب التركيز عليها في حياتنا لكي تكون حياة جيدة وسعيدة، وهي الإنجاز والشخصية المستقلة والإنصاف، ونستكمل اليوم عرض بقية العناصر وهي الاعتذار والتوازن وتعلم فن الحور
الاعتذار
أما النقطة الرابعة فهي الاعتذار، فلا يوجد إنسان لا يخطئ، ولا يوجد حزب ولا جماعة ولا دولة لا تخطئ، لذلك فالاعتذار سلوك حضاري يجب أن نتبعه. وإذا ما نظرنا في سير الأنبياء - وهم أفضل البشر الذين وطئوا سطح هذه الأرض- سنجد أن كثيرًا منهم اعتذروا؛ سواء كان اعتذارهم إلى الله سبحانه وتعالى مثل قول سيدنا آدم وزوجه: "قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، أو كان اعتذارهم لأشخاص. فنجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم- ضغط على بطن سواد بن عزية بعود كان في يده ليستوي في الصف، فلما قال سواد إن ذلك أوجعه طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتص لنفسه. ولما عوتب النبي صلى الله عليه وسلم في ابن أم مكتوم {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} نجد أنه صلى الله عليه وسلم كان يحتفي به، فلم يكن يراه إلا ويقول له أهلا بمن عاتبني فيه ربي.
نحن بحاجة إلى أن نتعلم فضيلة الاعتذار عن الأخطاء؛ سواء كانت هذه الأخطاء صغيرة أم كبيرة. والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يوزع الخراج أعطى لربيعة بن كعب الأسلمي قطعة أرض بجوار أرض سيدنا أبي بكر. وكان هناك جذع نخلة على الحد بين الأرضين، فقال ربيعة: "هي في حدي"، وقال أبو بكر: "هي في حدي". يقول راوي الحديث – وهو سيدنا ربيعة-: "فدخلت بيننا الدنيا" فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، ثم قال لي: يا ربيعة، ردها عليّ تكن لك قصاصًا. فأبى ربيعة وقال: لا والله لا أقول لك إلا خيرًا، فأعاد أبو بكر ما قاله فأعاد ربيعة رده، فقال أبو بكر الصديق: ياربيعة والله إن لم تردها عليّ شكوتك إلى رسول الله. وذهب الصديق مغاضبا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم. فجاء قوم ربيعة (قوم أسلم) فالتفوا حول ربيعة وقالوا: رحم الله أبا بكر يقول ما يقول ويشكوك إلى النبي؟. فقال لهم ربيعة: خلوا عني، ألا تدرون من هذا؟ هذا ذو شيبة المسلمين، ارجعوا حتى لا يراكم فيظن أنكم تستقووني عليه فيغضب ويذهب غاضبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه النبي، فيغضب الله لغضب نبيه فيهلك ربيعة. ثم ذهب خلف سيدنا أبي بكر رضي الله عنه فوجده قد حكى للنبي ما حدث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ولماذا لم تردها عليه يا ربيعة؟. فقال: يا رسول الله لا أقول له إلا خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت، قل له غفر الله لي ولك، فقالها ربيعة لأبي بكر فخرج أبو بكر وهو يبكي.
عندما ننظر لهذا الحديث نظرة تأمل وتدبر نجد أن فيه مجموعة من الفوائد العظيمة:
الفائدة الأولى: في عبارة "ودخلت بيننا الدنيا"، مما يؤكد أن الإنسان مهما كان ورعًا، ومهما كان قريبا من الله من الممكن أن تدخل الدنيا إلى قلبه، ومن الممكن أن يخطئ في وقت من الأوقات.
الفائدة الثانية: أن سيدنا أبو بكر الصديق –وهو من هو- عندما قال الكلمة ورأى أنها تمثل إهانة لمحدثه، قال له من فوره: ردها عليّ تكن لك قصاصًا؛ وهو نوع من الاعتذار، وهو أدب جم يعلمنا إياه سيدنا أبو بكر؛ وهو أنه عندما يخطئ الإنسان فليس انتقاصًا منه أن يعتذر إذا أخطأ. الاعتذار حرارة ونار، ولا يقدر على تحمل حرارة الاعتذار سوى العظماء من البشر.
الفائدة الثالثة: الإنصاف: فبالرغم من أن سيدنا أبو بكر أخطأ في حق ربيعة، لكن عندما أراد البعض أن يوقع بينهما لم يمنع هذا سيدنا ربيعة أن يحفظ لأبي بكر حقه وقدره، وقال: ألا تدرون من هذا؟.ودائما ما يدخل الشيطان من هذه الجزئية، فالشيطان يقلقه إلى حد كبير أن يتوب من أخطأ، لأن هذا يعني أن كل ما فعله الشيطان قد باء بالفشل مع كلمة أستغفر الله العظيم، أو كلمة سامحني.
التوازن
النقطة الخامسة في طريقنا نحو السعادة هي التوازن. نحن بحاجة إلى أن نعيش حياتنا بتوازن. وأن يكون أهم شيء فيها هو "فعلا" أهم شيء في حياتنا. كثيرا ما نعيش بشق مائل؛ فهناك هدف ما ينادينا فننطلق نحوه وننسى أهدافًا أخرى كثيرة يجب أن ننتبه إليها. أساتذة الإدارة وعلم النفس عندما تحدثوا عن السعادة وجدوا أنه لكي يكون الإنسان سعيدا وناجحا في حياته يجب أن تكون حياته متوازنة. يقول الأستاذ عبد الكريم بكار: لا يستطيع أحد أن ينكر أن المال هو مسبب من مسببات السعادة ولكن احذر وأنت تمضي من أجل تحصيل المال أن تفقد في حياتك أشياء لا تُشترى بالمال. فربما تفقد متعة أن يكبر ابنك تحت عينيك مثلا، فهذه متعة لن تستطيع أن تعوضها، كثيرًا ما نضيع صحتنا أو علاقاتنا الاجتماعية بسبب العمل، رغم أن أشياء كالعلاقات الاجتماعية وصلة الرحم قيمتها الحياتية في نفسي وقيمتها الأخروية عند الله كبيرة. لكن نحن في انطلاقنا نحو طموحاتنا لا نرى كل هذه الأشياء، الإنسان منا لا يرى صحته التي تضيع منه، أو علاقاته الاجتماعية المفقودة، أو أصدقاءه الذين يخسرهم واحدا تلو الآخر لأنه لا يتواصل معهم، أو أهله الذين تكبر الفجوة بينه وبينهم، أو أولاده الذين يربط سعادتهم دائما في أن يوفر لهم حاجاتهم المادية فقط دون أن يهتم باحتياجاتهم النفسية. يجب لكي نعيش حياة سعيدة وصحيحة وحقيقية أن ننتبه لأن تكون حياتنا متوازنة، وأن نتأكد أن كل شيء في مكانته الصحيحة، وأن أهم شيء هو فعلا أهم شيء.
هناك قصة عن اثنين من الأصدقاء رمى أحدهما سنارته وأخرج سمكة كبيرة فقال سأذهب لنأكل أنا وأولادي ونستمتع، فقال له صاحبه: طالما أن البحر خيره كثير فابق وقتا أطول يكرمك الله برزق وفير. فقال الأول: وبعد ذلك ماذا أفعل؟. قال: تأكل قدر حاجتك وتبيع الباقي وتجمع بعض المال. قال: وماذا بعد؟، قال: بعد سنوات يمكن أن يكون معك مبلغ كبير من المال فتشتري قاربًا ويصبح رزقك أوفر. قال: وبعد ذلك؟، قال: تشتري مخزن أسماك ومصانع لتعليب الأسماك. قال: وبعدها؟. قال: عندما تصبح في الستين أو السبعين تأخذ أولادك وتخرج في اللنش الذي تملكه وتجلس معهم على البحر تطبخون السمك وتأكلون وتستمتعون بالحياة. فقال له: يا صاحبي هذا ما أريد أن أفعله "الآن"، أن أستمتع بحياتي في هذه اللحظة وآخذ هذه السمكة وأذهب لأولادي وأشويها وأجلس وأستمتع بالبحر.
هذه القصة الرمزية لا تعني أبدا ألا ينظر الإنسان لغده ولا ألا يكون عنده طموح، وإنما تعني أنه يجب أن ننتبه إلى ألا نربط سعادتنا بشيء سيأتي. لا يوجد أي مشكلة أن أعمل وأكد في الصباح وأستمتع في المساء أو أخرج مع أولادي أو أجلس معهم. للأسف كثيرا ما يقول أحدنا سأكون سعيدا عندما أنتقل من هذه الشقة الضيقة إلى فيلا كبيرة يمكننا فيها أن نلعب ونمرح كما نشاء، أو سأكون سعيدا عندما أترك الشركة التي أعمل فيها وأبدأ مشروعي الخاص وقتها سيكون عندي متسع من الوقت ونخرج ونستمتع، أو سأكون سعيدا عندما نشتري سيارة تغنينا عن المواصلات. فدائما نربط سعادتنا بشيء مستقبلي. وللأسف الشديد كنت دائما أرى هذا عند والدتي، فكانت دائما تقول سأكون سعيدة عندما تتزوج وتنجب، ولما تزوجت وأنجبت قالت سأكون سعيدة عندما يتزوج أخوك، وتزوج أخي وأخي الأصغر منه وتزوجت أختي ولازالت أمي كل يوم تضع هدفًا مستقبليًا وتقسم أنها سترتاح وتكون سعيدة عندما يتحقق هذا الهدف. وهذا شيء في برمجة الدماغ، فالشخص الذي يريد أن يستمتع بحياته قادر على أن يستمتع بها.
وعندما أتساءل لماذا لا نستمتع بحياتنا، وأجد الإجابة أحيانا "لأننا مشغولون" فأتأمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يوجد إنسان في الدنيا مشغول بقدره؛ فهو نبي يربط بين الأرض والسماء، وهو رئيس الدولة، وقائد الجيش، والقاضي الذي يحكم بين الناس، ومع ذلك هو الزوج الذي عندما تقرأ عن تعامله مع السيدة عائشة يمكن أن تقول أنه لا يشغله إلا زوجته، لأنه كان يعطي لهذا الجانب حقه تماما. وإذا نظرت لتعامله مع حفيديه-الحسن والحسين- تراه قد أعطاهما حقهما فكان يركبهما على ظهره ويمشي بهما، وتجد أن ابنته- السيدة فاطمة- تقول لم يرني النبي إلا وقام، فكان يستقبلها ويسلم عليها ويقبِّلها حتى وإن كان جالسا في مجلس فيه رجال. وتجد أمنا عائشة تقول إنه كان يحرص أن يأكل من الموضع الذي تأكل منه، عندما أرادت السيدة صفية أن تركب الناقة – وكان ذلك في حضرة الجيش- لم يجد النبي غضاضة في أن يجلس على الأرض ويصنع من ركبته سلما لتصعد عليه إلى الناقة. وكان –صلى الله عليه وسلم- يسابق أمنا عائشة، ويداعب زوجاته. عندما تنظر لحياته الاجتماعية وحياته الزوجية ترى أنها كانت حياة متوازنة جدا، وعندما تنظر إلى جانب الرسالة تجد أنه-صلى الله عليه وسلم- لم يقصر فيها، ولم يقصر في إدارة شؤون الحكم والملك، فكان يعطي كل شيء حقه. لكننا –للأسف- نرى أننا يجب لكي نحقق شيئا أن نعلن حالة الطوارئ لنحقق هذا الشيء ونفقد أمامه أشياء أخرى كثيرة.
تعلم فن الحوار
النقطة السادسة لكي يعيش المرء منا حياة سليمة وصحيحة أن نتعلم فن الحوار. تحكي قصة أنه كان هناك كلب في قفص خشبي، وكان يشعر بالوحدة وكان يلف ويدور في القفص وحده ويشعر بالتعب. وفي يوم شديد المطر وجد صاحب الكلب قطًا فأخذه ووضعه مع الكلب في الصندوق. هذه الخطوة كانت خطوة جوهرية لكليهما –الكلب والقط. فالكلب كان في قمة سعادته أنه يأتي كائن آخر معه في القفص، وبالنسبة للقط كان حدثا سعيدا أن تم إنقاذه من المطر والبرد الشديد. فلما رأى الكلب القط أراد أن يعبر لها عن مدى سعادته بوجوده، وعندما يكون الكلب سعيدا يعبر عن هذا بهز ذيله، لكن في لغة القط كان هز الذيل يعني الغضب والتحفز. وبالتالي فإن الرسالة التي وصلته من الكلب هو أنه غاضب ومتحفز ولا يؤمن شره. فلما وصلته هذه الرسالة قوّس ظهره ليقول إنه فهم الرسالة وأنه سيكون مستعدًا ومتحفزًا. وكانت هذه الرسالة –بالنسبة للكلب- تعني أن القط لا يقبل وجوده وأنه جاء لطرده، فبدأ الكلب "يزوم"، وكان هذا يعني –بالنسبة للقط- أن المعركة على الأبواب. فقامت معركة بينهما وحرب طاحنة، فأخرج صاحب البيت القط من القفص وعاد إلى الشارع والبرد، وعاد الكلب إلى الوحدة وكان السبب هو عدم وجود لغة واحدة للحوار. قد نستمع لاثنين يتحدثان في قضية فنجد أن حالهما مثل حال الكلب والقط؛ كل منهما يتحدث بلغة مختلفة، ولا يسمع أحدهما الآخر، لأن كل منهما يصم أذنيه عن الآخر ولا يريد أن يسمعه لأن لديه من الأصل حكما مسبقا ضده، وبالتالي فكل كلام سيقوله أحدهما لن يوافق عليه الآخر. ونحن بحاجة لأن "نسمع بعض" لكي نحيا في هدوء، فلا نصدر أحكاما على الآخرين ونستخدمها في صنع حواجز تحول بيننا وبين الآخرين.
مشكلتنا غياب لغة الحوار التي تجمع بيننا وبين من حولنا.
روابط ذات صلة:
كم حياة ستعيش؟.... الجزء الأول
عن كريم الشاذلي
عن الكتاب